ثم التفت إلى أبنائه ينظر إليهم واحدا فواحدا كأنه يحاول أن يقرأ ما يظهرون وما يبطون، ثم قال: أراكم تكاتمون قلقا خفيا ولهفة مستترة، ويرمق الواحد منكم أخاه بعين الريبة والحنق. كيف لا وقد مات ولي العهد، واحتضر الملك وكلكم طامع في العرش راغب فيه، وما أنكر أنكم فتية نبلاء وعلى خلق عظيم، ولكن أريد أن أطمئن على تركتي وعلى إخوتكم ...
فقال الأمير رعباوف وكان أكبر الأمراء سنا: أبتي ومولاي، مهما فرقت قلوبنا الأهواء فهي تأتلف على طاعتك، وإن مشيئتك لدينا لهي الشريعة المقدسة التي تلزمنا طاعتها بغير قسم.
فابتسم الملك ابتسامة حزينة، وسها إليهم بعينيه اللتين جرى بمحجريهما الذبول وقال: أحسنت القول يا رعباوف، والحق أقول لكم إني في هذه الساعة الرهيبة أجد من نفسي قوة عظيمة على السمو على العواطف البشرية، وأحس بأبوتي للعباد تغلب في أبوتي للأبناء، فأعينوني على قول الحق وفعله.
وعاد إلى تفرس وجوههم ثم استطرد: يظهر لي أن كلامي لا يقع منكم موقع الإعجاب، والحق أني لا أجحد أبوتي لكم، ولكني أجد بين يدي من هو أحق بالعرش منكم، ومن توليه للملك حري بأن يصون لكم أخوتكم الطاهرة؛ هو شاب علت به همته إلى القيادة قبل الأوان، وحققت له شجاعته نصرا عزيزا للوطن، وأنقذت بطولته حياة الملك من الخيانة، وإياكم أن تقولوا كيف يتولى العرش من ليس يجري في عروقه دم الفراعين؛ فهو زوج الأميرة مري سي عنخ التي يجري في عروقها دم الملك والملكة معا.
فبدت الدهشة على وجه ددف وتبادل ومري سي عنخ نظرات الذهول، وبوغت الأمراء ورجال الدولة مباغتة ألجمت ألسنتهم وحيرت أعينهم، واتجهوا جميعا بأنظارهم إلى ددف .
وكان الأمير رعباوف أول من خاطر بتمزيق هذا السكون فقال: مولاي إن إنقاذ حياة الملك واجب على كل إنسان، وليس هو بالعمل الذي يتردد عنه مخلوق، فكيف يكون جزاؤه العرش؟
فقال الملك بلهجة صارمة: أراك تقدح شرر العصيان بعد أن تغنيت بأناشيد الطاعة منذ حين. أيها الأبناء إنكم أمراء المملكة وسادتها، وسيكون لكم الجاه والنفوذ والثراء، وسيكون العرش لددف. هذه وصية فرعون يلقيها على أبنائه بحق ما له عليهم من واجب الطاعة، فليستمع إليها الوزير ليتعهدها بسلطانه وكلمته، وليستمع إليها القائد ليسهر على تنفيذها بقوة جيشه، هذه وصية خوفو الأخيرة يتركها بين يدي من أحبهم وأحبوه، وعاشرهم بالحسنى فعاشروه بالمحبة والإخلاص.
وساد صمت رهيب لم يجرؤ أحد على تعكيره، وخلا كل إلى أفكاره، حتى دخل رئيس الحجاب وسجد للملك ثم قال: مولاي، إن مفتش الأهرام بشارو يضرع إلى جلالتكم أن تسمحوا له بالمثول بين يديكم. فقال الملك: دعه يدخل فهو منذ الساعة من آل بيتي.
ودخل بشارو بقامته القصيرة وجسمه المتهدل، وسجد بين يدي فرعون، وأمره الملك بالقيام وأذن له بالكلام.
فقال الرجل بصوت خافت: مولاي، أردت المثول بين يدي جلالتكم ليلة أمس لأمر هام، ولكن أتى مجيئي بعد ذهاب مولاي إلى الهرم، فاضطررت إلى الانتظار على جزع حتى الصباح.
Unknown page