وقال رون في تلك الأيام: «هو يعتقد إمكان اكتسابه كل شخص وتسييره بأسلوبه الدبلمي وذكائه النادر، وهو محافظ مع المحافظين وحر مع الأحرار، وهو يستخف بجميع من يحيطون به أو يسير مع الظنون بما يفزعني، وهو يود - بأي ثمن - أن يكون كل شيء لدى كل إنسان في الحال والمستقبل؛ وذلك لأنه يشعر بأن البناء الذي أخذ يشيده سينهار بين ضحك العالم وازدرائه عندما يسترد يده، وليس هذا بعيدا من الصحة، ولكن أتبرر الغاية الواسطة؟ وهل تقدس الوسيلة؟» فهذا هو الذي يسأله صديق بسمارك الحميم رون، وهذا هو الذي يسأله الرجل الحديدي رون الذي يعد الواجب إلها، ويرتعش رون أمام تلك الروح التي استدعاها.
وبينما ترى بسمارك مع تغايره الشخصي يقدر أثر كل كلمة ينطق بها - ولو بين الأخدان - تجده غير مبال بالصيت، وقد ظل بسمارك على هذا الوجه مدى حياته، وهو لا يبالي بالصيت لاحتقاره إياه، وهو يحسب تأثير كلماته لقيمة هذا التأثير في سياسته، وهو لعطله من البطل يجد من المكروه «أن يحدق إلي في كل محطة كما لو كنت يابانيا.» أو أن ينظر إليه كل شخص إذا ما كان في فولكسغارتن بفينة «كما لو كنت فرس ماء جديدا معدا لحديقة الحيوانات.» وهو يرى الألقاب والأوسمة مثيرة للسخرية، وهو يحذف في الرسائل الرسمية بعض العبارات المزوقة المعهودة ليبدو على حقيقته.
وهو يدعى ذات يوم مع وزيرين إلى الاجتماع بالملك فيسأل الحاجب عند وصوله: «ألم يحضر المضحكان بعد؟» وهو يرى في حفلات البلاط الراقصة ما يسليه إذا ما رقص عند بدئها، بيد أن الملك لم يتمالك أن يمنع الأميرات من الرقص معه «لعذل الناس إياي على اختياري رجلا خفيفا لرئاسة مجلس الوزراء.» ولم ينفك شريط نسره الأحمر يملص ذات حين فيأذن لموظف بالبلاط في شده، وفيما كان يعاني مضض الصبر على ذلك أشار إلى أمير بإصبعه قائلا: «إن الأوسمة تظل حيث هي لدى هؤلاء الأمراء، فأظن أنهم ولدوا ذوي جلود مرصعة بالمحاجم،
8
أي بالممسكات لمثل تلك الأدوات.»
وتنشر صحيفة «كلاديراداتش» له صورة هزلية كصائد، وينصحه هوهنلوهه بعدم الاكتراث، فيقول له غاضبا: «لا أبالي بحملتهم على سياستي، وهذا لا يثير سوى تبسمي، ولكن لا هزل حول الصيد؛ فالصيد أمر جدي!» وعلى ما كان من اتصاف زوجه بالقناعة لم يسمح لها بتمثيل دور ربة المنزل الريفية المقتصدة في بلد الماء المعدني بادن على الأقل، ويميل بسمارك إلى السخر من مظاهر الحياة الرسمية، وإذا ما ذهب بسمارك إلى البرلمان أو إلى بيته، وهو الذي لا تجده في غيرهما إلا نادرا، تراه مع ذلك مبديا هدوء المولود أريستوقراطيا، ولا يري بسمارك أفعاله العصبية لسوى خلصائه، لسوى أقربائه في الغالب، لسوى أمناء سره في بعض الأحيان، حتى يرووها للأعقاب.
ونال بسمارك كبير شهرة في أوروبة بأسرها، ويلقبه الدبلميون في برلين بالساحر العظيم أو بساراسترو، ويملأ اسمه الرسائل والمذكرات في العواصم الأجنبية، ويقول ميريمه دوما إن هذا الشيء أو ذلك الشيء سيكون «ما لم يقرر السيد بسمارك عكس الأمر»، ويجيد زولا وصفه ضيفا في قصر التويلري، فيقول: «يجاوز ساكارد القاعة منتصرا متأبطا ذراع خليلته جومون التي يقاسمه الإمبراطور إياها ويتبعه زوجها فيغرق الكونت بسمارك في الضحك، مع بعض الضيوف، هنيهة طويل النجاد
9
رياضيا ساخرا ناظرا إلى مرور الثلاثة مستطلعا.»
واشتهر بسمارك في ذلك الحين بواقعيته أكثر مما في المستقبل، وعد بسمارك في ذلك الحين متحللا فحار الخبراء من اختلاط حريته بحيلته، وقال بنيغسن: «إنه خادع الفرنسيين في مسألة اللوكسنبرغ خداعا عجيبا، أجل إن الدبلمية من أكثر أمور الدنيا كذبا، ولكنها إذا ما استعين بها لمصلحة ألمانية فبذل كثير خداع وعظيم نشاط في هذا المضمار كما صنع بسمارك لم يسع الإنسان إلا أن يقضي منها العجب.» ومن غير وصف له بالبطل كان دبلميو العصر يتناقلون كلماته مشافهة وكتابة، ومن ذلك ما رواه بوست
Unknown page