فمد حسن له يده بالسلام، وضغط على يده باسما، ثم قال: مع سلامة الله، بلغ تحياتي للجميع، وقل لأمك بأني سأزورها قريبا.
وغادر الشقة شاعرا بغرابة وإنكار، وهبط السلم الذي لا درابزين له في حذر، ولكنه لم يتنبه للرائحة النتنة من شدة إغراقه في تيار أفكاره.
47
كانوا يجلسون بحجرة الإخوة التي ستصبح من الآن فصاعدا حجرة حسنين وحده. ورنت نفيسة إلى حسين فغمر الألم قلبها وهتفت: رباه! هذه آخر ليلة تجمعنا معا!
وأحست الأم بطعنة تصيب فؤادها الذي علمه الدهر من الصبر فنونا، ولكنها ابتسمت، أو رسمت ابتسامة على شفتيها الجافتين، وقالت بعطف: حسين رجل كامل، وسيعرف كيف يعيش وحده دون ارتباك أو اضطراب، وإني مطمئنة كل الاطمئنان إلى أنه لن ينسانا، فسيذكرنا دائما كما سنتذكره دائما. وهذه هي الحياة يا عبيطة، ومصير كل أسرة إلى التفرق السعيد - على ما به من حزن - حيث ينهض كل بدوره الجديد.
وكان حسين يعرف أمه جيدا فأدرك أنها تداري حزنها بالحكمة والحزم كعادتها دائما، فصمم على أن يعالج وحشة قلبه بالحزم كذلك، لقد بكى مرة كالأطفال، ولكنه لن يبكي مرة أخرى، وتمتم مقلدا أمه في ابتسامتها: سوف نلتقي في الإجازات، ولعلي أنقل يوما إلى القاهرة.
فقال حسنين بأمل: لا بد أن يحدث هذا يوما ما.
وكان حسنين يجد كآبة وحزنا، لم يفترق عن شقيقه مذ رأى نور الدنيا، فلم يدر كيف يلقى الحياة بدونه، وكان شقيقه وصديقه معا، أجل كثيرا ما نشب النزاع بينهما، وبلغ الشجار أحيانا، ولكن لم يكن لأحدهما غنى عن الآخر، لو كانت بهية أقل عنادا لما شكا الوحدة قط، بيد أنه بوسعه أن يتعزى عن الفراق بالرسائل، يحبرها له من آن لآن فتصل ما ينقطع بينهما من أسباب العشرة والحديث، ولعله يستطيع أن يسافر إليه في العطلة؛ ترى هل يمكنه أن يجري عليه راتبا شهريا؟ خمسون قرشا أو ثلاثون، خصوصا وهو يعلم بأن راتب الدروس الخصوصية ينقطع بانتهاء السنة المدرسية! ليت شجاعته تؤاتيه الآن فيحدثه بأمانيه! .. ولكن صبرا، وليؤجل هذا إلى فرصة أوفق.
وكانت الأم تواصل التفكير بلا توقف، لقد وفقت إلى الظهور بالمظهر الذي تحب أن تظهر به، أو الذي اعتادت أن تظهر به، ولكنها كانت تعاني ألما عميقا بلغت شدته ذروتها عند هذا المساء، كانت تكابد تأنيبا خفيا لشعورها بأنها تؤثر حسنين بأكبر حبها، والآن ماذا ترى؟ .. ترى الأخ الوديع يضحي بمستقبله، ويرمي بنفسه بين أحضان النوى في سبيل الأسرة، بل في سبيل حسنين بالذات ، وضاعف من آلامها أنها كانت ترى الواجب يحتم عليها خوض حديث أبعد ما يكون عن العواطف، حديث إن دل ظاهره على الحدب على الفتى المسافر فباطنه يرمي إلى الدفاع عن الأسرة قبل كل شيء! وجعلت تؤجله وهو يلح عليها حتى اقتنعت بأنها إذا لم تسقه الآن فقد تفلت منها الفرصة إلى الأبد، ونظرت إلى حسين بإشفاق وحنان - وكان يرتب ثيابه في حقيبة أبيه - وقالت: إنك رجل عاقل، وهذا ما يجعلني جديرة بالاطمئنان، ولست أطمع في شيء أكثر من أن تواصل سيرتك الحميدة في بلدك الجديد، وأن تحذر صحبة السوء.
فابتسم حسين قائلا: اطمئني كل الاطمئنان يا أماه.
Unknown page