على عبارة «صحبة السوء» استدعت إلى مخيلته صورة عطفة جندب والبيت الذي لا درابزين له، والأساور الذهبية، فشعر بفتور أغاض الإشراق الذي رسمته الابتسامة على وجهه؛ فانحنى على الحقيبة ليواري وجومه عن الأعين، أما الأم فاستطردت قائلة باهتمام: ولا تنس أسرتك، حقا ليس ثمة حاجة إلى تنبيهك لهذا، ولكنني أحب أن أذكرك بأننا سنظل في حاجة إلى رعايتك حتى يتوظف حسنين وتتزوج نفيسة! - ما توظفت إلا لهذا.
وسرت في نفس نفيسة قشعريرة رعب، ونفذت كلمة «تتزوج» إلى أعماقها وخالتها تنبش ما استتر من خبيئتها، ألا يزال هذا الأمل يداعب أمها؟ .. ألا تدري أن الموت أحب إليها منه؟ ونظرت إلى وجه حسين بغرابة، إنه لا يدري، وهيهات أن يخطر لهم هذا على بال، هيهات هيهات! وغابت الحجرة عن عينيها فخيل إليها أنها تراهم وقد أحدقوا بها في ثورة جنونية، وقد جحظت أعينهم ملتهبة بنار الغضب، ثم انقضوا عليها كالوحوش. وهزت رأسها لتطرد عنها أشباح هذه الأوهام المرعبة، فعادت إلى حاضرها، ولكن سرعان ما وجدت نفسها تتذكر على الرغم منها ساعات ضعفها؛ تلك الساعات التي تذهل فيها عما يدفعها إلى تسليم نفسها من دواعي اليأس والفقر، هنالك تنسى كل شيء لا الرغبة المحرومة الجائعة فتمثل بنفسها أفظع تمثيل، تذكرت ساعات الضعف هذه وهي بينهم صامتة فعلاها خجل أليم، وخوف لا قبل لها به، وعادت تردد بصرها بين أمها وشقيقيها بغرابة؛ ما يزال أمامها فرصة للتراجع، لا لرأب الصدع طبعا؛ فقد ولى أوانه، ولكن ... رباه! لا تدري ماذا تقول، ما الفائدة؟ أي أمل قد بقي لها في الحياة؟ لقد قضي عليها بأن تقضي على نفسها ...
واصلت الأم حديثها قائلة: انظر ماذا يلزمك من نقود كي تنهض بضرورات المعيشة، وأرسل إلينا الفائض من مرتبك، لا بد من هذا يا حسين لأنه لم يعد يبقى لدينا ما يستحق البيع. - سأبذل قصارى جهدي.
وتبدد أمل حسنين - أو كاد - من الفوز براتب شهري من أخيه بعد أن طالبت الأم بالفائض من مرتبه، أجل، لا يبعد أن تحس الأسرة بشيء من الترفيه، ولكنه لن يروي جفاف يده، خاصة في العطلة الصيفية الطويلة، ترى هل تطالبه أمه إذا وظف يوما ما بما تطالب به حسين؟ غير معقول! إذا انتهى هو من دراسته فستتخفف أمه من أثقل واجبات الأسرة، ويسعه وقتذاك أن يتزوج وأن يعنى بأمر نفسه، إن نفيسة وحسين يتصديان للزوبعة في إبانها، وقد وجد نحوهما عطفا ورثاء دون أن يمنعه هذا من الفرح بحظه.
ولم تفرغ الأم من الإفصاح عما يدور بنفسها كله، فودت لو تحذره من أن يستدرجه أحد إلى الزواج، ولم تكن تجهل أن كثيرا من الآباء والأمهات يتصيدون العزاب أمثاله في غربتهم بسهولة، ولكنها لم تدر كيف توجه إليه هذا التحذير وعن يمينه أخوه الأصغر قد خطب وتهيأ للزواج وهو ما يزال تلميذا! عدلت عن رغبتها كارهة، ولكن مطمئنة في الوقت نفسه إلى رجاحة عقله وحسن تقديره، وتحدثوا طويلا ما شاء لهم الحديث، ثم جاء فريد أفندي محمد وأسرته لتوديع حسين، واستقبلوهم كما يستقبلونهم عادة بالترحيب والسرور؛ فليس ثمة أحد إلا ويقدر مودتهم وكرمهم وحسن جيرتهم. أجل، لعله طرأ على بعض النفوس تغير باطني منذ تمت خطبة حسنين لبهية غير الرسمية؛ فالأم مثلا آمنت بأنهم رموا شباكهم حول الفتى قبل أن ينهض، وأنهم راموا باستئثارهم أشد آمالها تألقا، أما نفيسة فلم يكن بوسعها أن تحب شخصا يطمح إلى امتلاك حسنين خاصة، ولكن هذه المشاعر الصامتة لم تكن لتؤثر في رابطة الود والإخاء التي تجمع بين الأسرتين، ولم يكن من الهين أن تنسى الأم أيادي فريد أفندي ومروءته. وقد سر حسين بزيارة التوديع سرورا كبيرا، ووجد نحو الأسرة التي يحبها - الأب والأم والفتاة وتلميذه السابق - امتنانا عميقا، وجرى الحديث بين ذكريات الماضي وآمال الحاضر لطيفا صادقا؛ مباركة عليك الوظيفة، تسافر مصحوبا بالسلامة، ستترك وراءك وحشة، لقد خسر سالم أستاذا لا يعوض ... إلخ، وبهية نفسها على حيائها وتحفظها قالت برقة: «تعود بالسلامة قريبا إن شاء الله!» فشكر لها تلطفها بلسانه وقلبه «فتاة حسناء حقا، مهذبة محتشمة، وحسنين شاب رائع، وسيكون زوجا رائعا، ترى ألم يقبل هذا الثغر؟ طالما شكا تحصنها متذمرا، فيا لها من فتاة نادرة حقا، سأسافر غدا وتمسون صورا وذكريات، وستجتمعون كاجتماعكم هذا، وربما لا تذكرونني إلا قليلا، أو لا تذكرونني بتاتا، ولكن كيف أكون؟ وأين؟ وهل أملك مع وحدتي إلا أن أذكركم؟ كلما اشتد الدهر ازددت قوة وصبرا، ولأظلن هكذا إلى الأبد!»
48
غاب وجه حسنين في زحمة المودعين، وتراجع سقف محطة مصر الهرمي حتى بدا من الداخل مظلما، كل شيء يتراجع بسرعة متزايدة؛ وداعا يا مصر! وعاد حسين برأسه إلى الداخل واعتدل في جلسته، وهو يغمض عينيه ليخفي دمعة رقيقة غالبت إرادته طويلا ورمش سريعا لينفض نداها عن أهدابه. وكان إلى يساره أفندي يتصفح جريدة على حين جلس قبالته قرويان يتجاذبان الحديث، ومع أن العربة كانت نصف ممتلئة إلا أن ضجة الراكبين كادت تعلو على صلصلة عجلات القطار، وذكر في حزن مرطب بسرور أنه رأى دمعة في عيني حسنين، أجل، لقد تجلدا وهما يتحادثان على طوار المحطة، ولكن حين تحرك القطار وأخذ الفتى يلوح له بيده اغرورقت عيناه بالدموع، وفي البيت كانت نفيسة تبكي صراحة حتى التهبت عيناها! لشد ما يذكر وجهها - الذي حرمه الله نعمة الحسن - بعطف ورثاء وحنان. أما أمه - وقد ابتسم على رغمه - فقد ضمته إلى صدرها وقبلت خديه، ولعلها تفعل هذا لأول مرة ، أو في الأقل فهو لا يذكر أنها قبلته قبل هذه المرة! لشد ما تأخذ نفسها بالحزم حيالهم، هذا طبعها، ولكن هيهات أن يطمس حنانها العميق! ولم تشأ أن تبكي وهي تودعه إذ إنها تتشاءم من دموع التوديع، ولكنه قرأ في تقلص جفنيها نذيرا بالبكاء لا يلبث أن يستفيض دموعا إذا واراه الباب عن عينيها، وقال لنفسه لعلها بكت طويلا، لا تزال تبكي، وشعر لهذا بكآبة وحزن. ولم يكن رآها تبكي قبل وفاة والده فاشتد تأثره؛ «يا لها من امرأة عظيمة! شاء الله أن يبتلي أسرتنا بمصيبة قاصمة، ولكن سبق لطفه فقدر أن تكون هذه المرأة أمنا؛ ماذا يكون مصيرنا لولاها؟ كيف غذتنا وكستنا؟ كيف سيطرت على توجيهنا؟ كيف نهضت بضرورات أسرتنا في هذه الظروف القاسية؟ يا لها من معجزة تحير العقول، حتى حسن أخي ففي ظني أنه لولا المرحوم أبي لأمكن أن تجعل منه رجلا غير الرجل! آه ... لأقتصدن في الكلام عن حسن؛ لولاه ما عرفت سبيلي إلى وظيفتي، نقوده هي كل مالي حتى آخر الشهر؛ الأساور؟ يا للذكرى! انس، ينبغي أن أنسى كي أعيش، سأقضي الدين يوما وأسدل الستار على أسوأ الذكريات.» وأرسل بصره من النافذة فارا من أفكاره، فرأى الحقول تترامى حتى الأفق، والخضرة يانعة ناضرة بهيجة، تميل رءوسها مع الهواء في موجات متصلة، وهنا وهناك فلاحون وثيران تلوح كالدمى تكاد تبتلعها الأرض، وسوائم ترعى، وفوق هذا كله سماء الخريف متلفعة ببياض شاحب ينحسر في أكثر من موضع عن بحيرات من زرقة صافية. ومر القطار بجدول صاف ذابت أشعة الشمس على سطحه زئبقا يبهر الأعين، ورأى أسلاك البرق في أمواجها المتواصلة تشملها حركة منتظمة كأنها تسبح في الفضاء على وقع طقطقة القاطرة الرتيبة، ثم مد بصره كرة أخرى إلى الأرض المنبسطة، الصامتة الصابرة، الخيرة، فذكر دون وعي أمه! كهذه الأرض الخضراء صبرا وجودا، والدهر يحرثها بسنانه! لم يعد بوسعها أن تقوم بزيارة محترمة لأنها لا تجد الثياب اللائقة! وتغيمت عيناه فغابت عن ناظريه بهجة المنظر، ودعا الله أن يرزقه حتى يرفه عن أمه المتصبرة وأسرته المتجلدة؛ «يا للعجب! إن مصر تأكل بنيها بلا رحمة. ومع هذا يقال عنا إننا شعب راض، هذا لعمري منتهى البؤس، أجل غاية البؤس أن تكون بائسا وراضيا، هو الموت نفسه! لولا الفقر لواصلت تعليمي هل في ذلك من شك؟ الجاه والحظ والمهن المحترمة في بلدنا هذا وراثية، لست حاقدا، ولكني حزين؛ حزين على نفسي وعلى الملايين، لست فردا ولكنني أمة مظلومة، وهذا ما يولد في روح المقاومة ويعزيني بنوع من السعادة لا أدري كيف أسميه، كلا لست حاقدا ولا يائسا أيضا، وإذا كانت فرصة التعليم العالي قد أفلتت من يدي، فلن تفلت من يد حسنين، وربما وجدت نفيسة الزوج المناسب، سوف ترد الروح إلى أسرتنا فنذكر أيامنا السود بالفخار.» ولاحت منه التفاتة إلى يساره فوجد الأفندي الذي كان يتصفح الجريدة قد طواها ونظر إليه نظرة من ضاق بالوحدة والصمت، وكأنه كان ينتظر هذه الالتفاتة العارضة فقال بلا داع ولا تمهيد وهو يلوح له بالجريدة المطوية: لولا الطلبة ما ائتلف الزعماء، من كان يتصور أن يجلس صدقي مع النحاس على مائدة واحدة؟
ورحب حسين بالحديث ليريح رأسه من أفكاره وقال: هذا حق يا سيدي. - ومن كان يصدق أن يعترف الإنجليز بأن مصر دولة مستقلة ذات سيادة، وأن ينزلوا عن التحفظات الأربعة؟ .. أتظن أن تلغى الامتيازات حقا؟ - أعتقد هذا.
فقال الرجل بسرور: سيحكم النحاس إلى الأبد، انتهى عهد الانقلابات، حضرتك وفدي؟ - نعم. - قرأت هذا في سماحة وجهك، الوطني هو الوفدي، وما الأحرار الدستوريون إلا إنجليز بطرابيش، بصرف النظر عما يقال عن الائتلاف وفوائده. - هذا حق لا شك فيه. - حضرتك مسافر إلى الإسكندرية؟ - إلى طنطا فقط. - شي الله يا سيدي يا بدوي، لقد عشت في طنطا أعواما.
ولاح الاهتمام في وجه حسين فسأل: إني موظف جديد، فهلا دللتني على فندق معتدل الأسعار، يصلح للإقامة؟
Unknown page