ما معنى الثورة البيضاء؟
وأحد مفاخرنا أن ثورتنا كانت ولا تزال بيضاء، وهي ليست مفخرة فقط، ولكنها في رأيي إحدى دعائم الثورة وركائزها، فثورتنا بيضاء؛ لأنها أبقت على هذا التفاعل الحيوي في حدوده المعقولة، والثورات الأخرى الدموية لجأت إلى الدم لضعفها؛ لأنها قامت تريد أن تفرض الثورة فرضا على شعبها، وليس أن تخلق من مواطنيها شعبا ثائرا، ولهذا فجريان الدماء على الأرض عقم هذه الأرض وأخمد نهائيا هذا التفاعل الخلاق بين مركز الثورة ومحيطها، وبين القادة والشعب، وبين القادة أنفسهم والشعب نفسه، وقد فعلت ثورتنا هذا، وقويت بهذا الفعل؛ لأنها لم تيأس من طبقات بأكملها كما يدعونا بعضهم إلى اليأس، ولا نفضت يدها من فئات بحالها. إن جمال عبد الناصر قد وضع بخطبته الأخيرة دستورا ثوريا جديدا حين تحدث عن فساد «البعض» ويأسه من «البعض»، ولم يحكم أبدا على طبقة أو فئة ككل، وحمدا لله أن الذين يكتبون عندنا ليسوا هم الذين يحكمون، إذ من يدري إذا؟ ربما كانت الدماء قد سالت أنهارا وبلا سبب، إن أخذ بعضهم الأمور مأخذا «فنيا» «جماليا» بحتا.
ما هي الجريمة؟
حسنا أيها السادة الذين تحدثتم كثيرا وطويلا عن المثقفين حتى كادت الثقافة تصبح تهمة، وبالذات تهمة هذا الجيل، ما هي الجريمة التي ارتكبها المثقفون؟ أجريمتهم أنهم ثاروا على الاستعمار أيام كان عندنا استعمار؟ أجريمتهم أنهم أصدروا مجلات وصحفا شتمت الملك وهو ملك، وعادت الإنجليز أيام أن كان الإنجليز هم الإنجليز؟ ووقفت بقوة وثبات وإخلاص ضد جميع المحاولات التي بذلت لجر البلاد إلى مناطق النفوذ والأحلاف؟ أجريمتهم أنهم جميعا 99
منهم أيدوا الثورة قلبا وقالبا، ووضعوا أنفسهم في خدمتها في تكويننا كشعب وكأفراد، إلى الحد الذي نبدأ نحس معه أن لنا تاريخا لم تكتبه أجيالنا السابقة فقط، ولكن كتبناه نحن أيضا، ارتكبوها كفئة بأكملها ليدعو الأستاذ محمد عودة الثورة أن تنتظر إلى أن يخرج جيل جديد من المثقفين أبناء الشعب؟ وهؤلاء المثقفون معظمهم من أين جاءوا؟
إنهم جميعا يكادون يكونون قد جاءوا - ليس فقط من صلب الشعب - ولكن كثيرين منهم جاءوا من أفقر طبقات الشعب، ولا يزالون إلى اليوم مخلصين لمساقط رءوسهم، وتجاربهم وثقافتهم «الاستعمارية» لم تلوثهم كما يدعي عودة، بالعكس، لولا هذا التراث من التجارب، لولا كفاحهم الرهيب من أجل أن يضعوا أنفسهم وثقافتهم في ظل أوضاع معادية خطيرة، لولا صلابة العود التي اكتسبوها، لولا كل هذه العوامل التي لم «تلوثهم» كما يقول عودة ولكنها «صقلتهم» و«سقتهم» وجعلتهم أبناء مخلصين لهذا الشعب، يعملون من أجله قبل الثورة وبعدها، لولا هذا ما كانوا قد استطاعوا القيام بكل ما قاموا به، إن العمل العظيم لا يلغي أي جهد آخر مهما صغر، ولقد كانت الثورة معجزتنا الكبرى وليلة قدرنا وعملنا الأعظم، ولقد كان جمال عبد الناصر بطل شعبنا الذي ظل يبحث عنه وينتظره أحقابا وأحقابا، ولكن هذا البطل نفسه هو الذي يتولى بنفسه إنصاف هذه الأعمال التي تضاءل بجوار ما فعله، هو الذي وقف في ميدان عابدين يوم 23 يوليو الماضي، يقول: إن نجاح الثورة كان سببه الحاسم التفاف الشعب حولها منذ أول لحظة، والمثقفون كانوا ضمن الشعب الذي التف حولها، وهو نفسه الذي حدد المشكلة في جامعة الإسكندرية، بقوله: إننا نعادي الأوضاع الظالمة والعلاقات الاجتماعية التي تستنزف دماء الشعب وجهوده، ولا نعادي أفرادا وطوائف، جمال عبد الناصر هنا يتكلم بضمير المثقف المخلص الشريف، ويرد عل كل الطعنات التي وجهت إلى المثقفين، ويخاطب بالذات هذا الجيل منهم، الجيل الذي مهد للثورة واحتضنها، ولا يزال مستعدا للتضحية بالأرواح في سبيلها.
الشعارات الرنانة
أما أن يطالب الأستاذ عودة إزاحة هؤلاء جانبا واللجوء إلى جماهير الشعب مباشرة، أو انتظار جيل جديد ينشأ من المثقفين، فهو كلام إنشائي لا معنى له، فالمسألة ليست إطلاق شعارات رنانة! إن القضية أخطر من هذا بكثير، إن إزاحة تراثنا الثقافي الممثل في هذا الجيل، إزاحة خبرتنا المبلورة فيه، صرف النظر عن ثمرات أنفق شعبنا الكثير ليترجمها بدعوى أن اللجوء إلى الأصل معناه الوحيد إضعاف ثورتنا، معناه حرمانها من جنودها وأركان حربها وخبرائها، إننا نقيم المشروعات والمصانع ليعمل الناس ويتثقفوا، فنحن بلد فقير الموارد لا يزال المثقف فيه ثروة لا بد من استغلالها، وليس هذا فقط بل إني لأطالب أن تفتح ثورتنا أذرعها لمثقفينا وأن تثق فيهم وأن تحملهم المسئولية، فإذا كانت هي القلب فهم الشرايين، وإذا كانت هي العقل فهم الأعصاب، والجفوة بينهما لا محل لها ولا معنى، بالعكس، أي خطوة لن يستفيد منها إلا أعداء الثورة؛ أعداء المثقفين، وبالذات مثقفي هذا الجيل المفترى عليهم. إني لعلى ثقة من أن بعض عيوب التطبيق عندنا مرجعها إلى نبذ المثقفين والنظر إليهم بعين الشك، وكيف يحدث هذا والثورة عندهم كالقلب غالية لا يتوقف لها نبض؟ كيف يحدث هذا وهم الذين دعوا لها وبشروا بها وكانت أقصى آمالهم أن تنجح وتمضي وتستمر؟ بل حتى في خلاف بعضهم معها كان السبب شدة الحرص على نجاحها وانطلاقها، إني لا أستطيع أن أتصور ثورة تحارب الاستعمار العالمي، والاحتكارات والإقطاع في الداخل، ورأس المال المستغل، بلا جيش من المثقفين، بلا خبرة المثقفين، بلا إخلاص المثقفين ومثاليتهم، حتى بلا أخطاء المثقفين، فأوهن الأخطاء دائما هي أخطاء المثقفين، إلا ذلك الخطأ الذي يتردى فيه بعضهم أحيانا ويطالب بإبادة المثقفين وكأنهم جراد أو ناموس أو ذباب ذو طنين، والمصيبة أن هذا يحدث دائما من أحد المثقفين، واللهم احم كل المثقفين من بعض المثقفين. (11) انهزم العدوان وانتصر الروتين
لي مع العدوان الثلاثي الغاشم قصة خاصة، كلما هل علينا نوفمبر من كل عام أتذكرها، ورغم أن معارك الشعب تتخذ ذكراها باستمرار طعما خاصا كلما تقادم بها العهد؛ إذ هي لا تفقد أبدا محتواها العاطفي، كلما استعدناها استعدنا معها أحاسيسنا العارمة بأول شعور بالغزو الأجنبي أحسه جيلنا، فالغزو كنا نقرأ عنه في كتاب التاريخ ونحاول تخيل موقف شعبنا في الإسكندرية وكل مكان، وهو يواجه الأسطول البريطاني ويلتف حول عرابي ليلقي بالغزاة في البحر، أما في عام 1956 فقد وقفنا مع شعور الغضب الخلاق المجيد وجها لوجه، وأحسسنا لأول مرة في حياتنا بمعاني كلمات كنا نرددها ترديدا نظريا أجوف مثل: الغزو المسلح، والاستعمار العسكري، والغدر الاستعماري، ومؤامرات الدول الكبرى وخستها، كل هذا عشناه وشعرنا به وخضناه كتجربة موت وحياة، تجربة تعاظم فيها إحساسنا بالخطر، وتعاظم أكثر شعورنا بالرغبة المستميتة للوقوف في وجه هذا الخطر وسحقه، إن كلمات جمال عبد الناصر: سنقاتل ... سنقاتل ... سنقاتل ... ولقد كتب علينا القتال كما كتب علينا الاستشهاد، كلمات مثل تلك لا يمكن إدراك معناها الحقيقي والشحنة العاطفية التي تصاحبها إلا لمن يقدر له أن يحيا تجربة الغزو التآمري كاملة، تجربة كلما مر عليها الزمن ازدادت أصالة وضربت بجذورها إلى أعماق بعيدة، هنا في داخلنا نحمل جمرة مقدسة من تاريخ هذا الشعب، كلما تعاقبت عليها السنون ازدادت توهجا وقدسية وأصبح لها في أذهاننا مذاق معتق خاص، مذاق الحرية مختلطة بالدم، مذاق الاستقلال مختلطا بمسئولية الحفاظ عليه، مذاق الثورة مختلطة بروحها الدافعة الخلاقة المتوثبة.
ورغم هذه الأحاسيس البالغة القداسة، تبقى لي مع ذكريات المعركة قصة لا أظن إلا أنها - كإحدى نكاتنا الشعبية المشهورة - ضاحكة، فبعد أكثر من عام مر على العدوان، وكنت أثناءه مفتش صحة للحي العريق الدرب الأحمر، فوجئت بالنيابة الإدارية لوزارة الشئون البلدية والقروية - التي كانت تتبعها الصحة - تستدعيني للتحقيق. وذهبت إلى مقر النيابة وأنا أتساءل عن ماهية الجريمة المجهولة التي تستدعي هذا التحقيق، ولم يطل بي التساؤل، فقد واجهني وكيل النيابة بالتهمة، وسألني: لماذا لم أذهب إلى عملي يوم 5 نوفمبر سنة 1956؟ وكانت شهور كثيرة قد مضت وكنت قد نسيت، فسألته بدوري: كيف عرف أني لم أذهب إلى مكتب الصحة يوم 5 نوفمبر المذكور؟ فقال لي: إن أمامه تقريرا من المفتش الفني للإدارة الصحية يفيد بأنه ذهب إلى مكتب الصحة في اليوم المذكور وانتظر من الساعة الثامنة إلى العاشرة صباحا، دون أن أحضر، وأنه مر على المكتب بعد ظهر نفس اليوم فوجد أني لم أذهب إلى هناك، وأنه راجع الدفاتر فوجد أني لم أكن قد طلبت إجازة أو أبلغت بمرضي، فكيف أتغيب يوم 5 نوفمبر بطوله دون إذن؟
وجعلتني الأسئلة الكثيرة أتذكر، فيوم 5 نوفمبر كان سادس أيام العدوان الثلاثي، وكنت فعلا قد تركت القاهرة بكل ما فيها من عمل ومسئوليات، وذهبت مع الأصدقاء أحمد عباس صالح وكامل زهيري وأحمد مجاهد وسعد زغلول وعادل أمين إلى المطرية، في طريقنا إلى بورسعيد، حيث وجدنا الصديق الفنان حسن فؤاد ينتظر هو الآخر أن يهرب إلى بورسعيد، وكان المسئول عن العملية كلها وعن جبهة المطرية الضابط «م، أ»، وهو أحد أبطال جيشنا الأحرار، وقصة سفرنا إلى المطرية ومحاولات تهريبنا إلى بورسعيد في حد ذاتها صفحة من صفحات كتاب العدوان ليس هذا مكانها، ولكن المهم أنها حدثت يوم 5 نوفمبر، اليوم الذي استدعتني النيابة الإدارية لتحقق معي سبب تغيبي فيه، والحقيقة أن السؤال روعني، فالبلاد كلها تواجه خطرا داهما، وكانت هناك غارات مستمرة على القاهرة، والمواصلات متوقفة، والكهرباء تسحب في أثناء الغارات، والشعب كله بفلاحيه وموظفيه وعماله قد ترك كل شيء ليتفرغ تماما لمواجهة العدوان ورد الطغاة، كله إلا المفتش «الفني» الذي استيقظ مبكرا جدا واخترق القاهرة المشتعلة والجماهير المحترقة بالحماس والغضب، ولم يأبه لهذا كله وإنما مضى بنشاط غريب إلى مكتب صحة الدرب الأحمر ليجلس هناك من الساعة الثامنة صباحا ليعرف إن كان طبيب المكتب سيحضر في ميعاده، أم سيتأخر ساعة ليتسنى له أن يضع تقريرا عن هذا التأخير؟ بأية عقلية فعل هذا كله؟ وبأي مقدرة خارقة استطاع أن ينفصل نفسيا عن شعبنا كله ليتركه يواجه المعركة ويتفرغ هو لضبط موظف في حالة تأخير أو غياب.
Unknown page