ورفض وكيل النيابة أن يكتب ردي أول الأمر، ولكنه رضخ للأمر الواقع وكتبه؛ إذ قد طالبت في ردي لا بأن يحدث التحقيق معي عن غيابي، ولكن لا بد من التحقيق مع المفتش «الفني» هذا بتهمة أنه كان يؤدي عمله التافه في وقت تتعرض فيه البلاد لأقسى محنة مرت بها. إن أداء العمل الروتيني حينئذ هو الجريمة، وليست الجريمة ترك العمل لإنقاذ الوطن.
ولكن الروتين هو الروتين، والجهاز المنحط هو الجهاز، والروتين مع الإنجليز والاستعمار والعدوان لا يعقل أبدا أن ينقلب ويصبح مع الشعب والوطنية، والشيء الذي يحز في النفس أننا هزمنا العدوان الثلاثي حقيقة وقضينا على الاستعمار، ولكننا لم نستطع أن نقضي على الروتين، ففي قضيتي الخاصة، ورغم الظروف الواضحة، انتصر الروتين، وكانت نتيجة التحقيق بعد انقضاء أكثر من عام على هزيمة العدوان، أن جوزيت بخصم ثلاثة أيام من مرتبي مع الإنذار؛ لأني تغيبت بدون إذن يوم 5 نوفمبر سنة 1956! (12) بصراحة
1
انتهت اللجنة التحضيرية من المناقشات العامة ، وقد سمعت كثيرين يقولون إن النقاش داخل اللجنة التحضيرية قد طال وتشعب، وإننا في ثورة لا تحتمل هذا الأخذ والرد.
والحقيقة أنها وجهة نظر بالغة الأهمية، فبعض الإجراءات الثورية تفسد فاعليتها بمحاولة الإعلان عنها أو طرحها للمناقشة قبل التنفيذ، ولكن هناك وجهة نظر أخرى لا تقل أهمية، لكي ندركها لا بد أن نسأل أنفسنا أولا: هل الثورة هي النجاح في سن وتطبيق الإجراءات الثورية، أم الثورة أساسا وقبل أي شيء آخر هي إيمان الناس بحتمية هذه الإجراءات، وإدراكهم لضرورة القيام بها وتبنيهم لها؟ والناس هنا هم أولا طبقات الشعب وفئاته التي قامت من أجلها الثورة، وتسن من أجل مصالحها هذه القوانين.
ذلك هو السؤال، والإجابة عنه - ونحن في صدد بناء الهيكل التنفيذي والتشريعي للثورة - من الأهمية بمكان، فالإجراءات الثورية ضرورة حتمية من ضرورات أي ثورة، وإيمان الناس بهذه الإجراءات وفهمهم وتبينهم لها ضرورة لا تقل أهمية، فهذا الإيمان هو الحماية الأولى والأخيرة للإجراءات، ومن ثم للثورة نفسها.
المشكلة إذن ليست القيام بالإجراءات الثورية، المشكلة الحقيقية هي في إيمان الناس إيمانا لا يتزعزع بها، فالإيمان هو الثورة؛ إذ حين يدرك الفلاح ويؤمن إيمانا عميقا أن الأرض التي يزرعها هي من حقه، ومن حقه وحده تملكها، ووجود هذا الإيمان في قلب الفلاح حتى ولو لم يكن باستطاعته تملك الأرض، هو الثورة. أما منح الخمسة فدادين لفلاح لا يزال يدرك أن الأرض لمالكها وأنها خير هبط عليه من السماء، أو ورقة يانصيب ربحها، فهو عمل حقيقة قد يرفع من مستوى الفلاح ويجعله مالكا، ولكنه أبدا لا يعد ثورة ولكنه من نتائج الثورة، وهذه الكلمات الضخمة الجوفاء التي نسمعها تقال وتطلب «الرحمة» و«العدل» ومنح «الفرص الأخرى» للإقطاعيين والرأسماليين، وكلمات إذا تعمقنا أصلها وجدنا أن سببها راجع إلى أن قائليها - بعد - لم يؤمنوا بالثورة، ويعتقدون مثلا أنها «مصائب» حلت بالرأسماليين والإقطاعيين، أو إجراءات قامت بها «الحكومة».
فليستمر النقاش
النقاش إذن داخل اللجنة التحضيرية وداخل المؤتمر العام - حتى ولو استمر طويلا - ليس واجبا فقط ولكنه ضرورة حتمية لا بد منها لكي يتبين الناس القوانين الثورية، ولكي تحس جماهير الشعب وتدرك أن التغيير لها ولمصلحتها، وأنه ليس عقابا لأحد على ذنب ارتكبه، ولا محاولة للانتقام من عبود أو فرغلي للوسائل غير القانونية التي لجأ إليها هذا المواطن أو ذاك من «الأغنياء» كي يفروا، ولكنه تغيير اجتماعي جذري في طريقة حياتنا ووسيلة وطرق إنتاجنا، تغيير يمليه العلم والتطور والمصلحة، تغيير ليس هدفه «رفع» مستوى حياة البعض «بمصادرة» أموال البعض الآخر، ولكنه تغيير هدفه أن يكمل تحررنا، وبمثل ما طردنا المستعمر كي نتحرر كشعب، نحطم النظام الاستغلالي الاستعماري كي يتم تحررنا كأفراد.
مثل هذا التغيير قد يتم على الورق بقوانين وإجراءات نصدرها، أما لكي يصبح حقيقة واقعة لها كل قداسة الإيمان فلا بد أن يعقبها تغيير جذري مماثل داخل كل عقل وقلب. لا بد أن يؤمن كل منا إيمانا راسخا به، والإنسان لا يؤمن إلا إذا اقتنع، والاقتناع لا يتأتى إلا بالنقاش، ومن أجل هذا فنحن في حاجة إلى مناقشات كثيرة ومناقشات ... نفس حاجتنا الماسة إلى الإجراءات.
Unknown page