Bayna Din Wa Falsafa
بين الدين والفلسفة: في رأي ابن رشد وفلاسفة العصر الوسيط
Genres
العالم لا يتصور كما يقول الغزالي أن يكون من صنع الله في رأيهم وحسب أصلهم الذي ذهبوا إليه، وذلك من ثلاثة أوجه: الفاعل لا بد أن يكون مريدا مختارا، والله ليس كذلك في مذهبهم، والعالم قديم، والمصنوع هو الحادث، والله واحد من كل وجه؛ فلا يصدر عنه إلا واحد كذلك عندهم، والعالم فيه كثير من المختلقات فلا يكون واحدا من كل وجه.
63
وهذا البيان من الغزالي يجعل من اليسير حصر الخلاف بين المتكلمين والفلاسفة على هذا النحو: ما هو الفاعل؟ وما هو الفعل؟ وما المراد بما ذهب إليه الفلاسفة من أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد؟ (أ)
يرى الغزالي كما عرفنا أن الفاعل ليكون فاعلا يجب أن يكون عالما بما يفعل ، ومريدا له عن اختيار، ويفرق بين مجرد السبب لشيء، كالشخص للظل والشمس للضوء والحرارة، وبين ما يكون سببا على نحو خاص هو الإرادة، فالأول ليس فاعلا ولا صانعا، والثاني هو الفاعل حقا ما دام يعلم ما يفعل ويريده. أي إن الأول إن سمي فاعلا كان بطريق المجاز لا الحقيقة، ومثاله من ألقى شخصا في النار فمات كان هو القاتل دون النار التي ليست إلا سببا لا فاعلا حقا.
64
ويريد الغزالي بهذا كله أن يقرر ضرورة عنصر الإرادة والاختيار في الفعل حتى يكون من صدر عنه فاعلا حقا، وما دام العالم صدر عن الله بالضرورة عند الفلاسفة، يكون الله غير مريد، وإذن فلا يكون فاعلا ولا خالقا للعالم، ويكون إطلاق وصف «الفاعل أو الصانع» عليه إطلاقا غير حقيقي يراد به موافقة ما جاء به الإسلام!
65
وفي الرد على ذلك كله يبدأ ابن رشد بالقول بأن اشتراط الإرادة والاختيار، على النحو الذي يريده المتكلمون، في الفاعل للعالم - أي: في الخالق - ليس من المعروف بنفسه أو المعترف به، إلا إذا قام الدليل عليه أو صح نقل حكم الشاهد فيه إلى الغائب.
وهذا، بأن الفاعل في الأمور المشاهدة إما فاعل بذاته وطبعه شيئا واحدا فقط لا يتغير، ونستطيع أن نمثل لها بالنار تكون عنها الحرارة، والثلج تكون عنه البرودة، وإما فاعل عن علم وروية، فهو يفعل هذا الشيء اليوم مثلا ويفعل ضده غدا، والله منزه عن أن يكون فاعلا بالمعنى الأول وهو واضح، وكذلك بالمعنى الثاني على النحو الذي يوصف به الإنسان؛ لأن الإرادة انفعال، والله منزه عنه، والمريد من ينقصه المراد، والله لا ينقصه شيء، والمريد من إذا حصل المراد كفت إرادته، وهذا ما لا يصح أن يفهم في جانب الله، وإذن كيف يقال إن الفاعل الحق هو من يفعل عن إرادة واختيار، ويجعل هذا الحد مطردا في الشاهد والغائب على السواء!
66
Unknown page