Batal Nahda Misriyya Kubra Sacd Zaghlul Basha
بطل النهضة المصرية الكبرى سعد زغلول باشا
Genres
وأنت فستقرأ في الصفحات الآتية تاريخه الحافل بالعظائم، وتعي ترجمته المترعة بالمحاسن والمكارم؛ فتتبين كيف يكون العظيم في قوة الإرادة، وما قوة الإرادة إلا انتصار للقوة الإلهية الكامنة في الإنسان، وما القوي في إرادته إلا من يكون لنفسه قانونا وشرعة ونظاما، يعلم علم اليقين أنه إذا نزل على رأيك وحكمك، وعمل بأمرتك وإرادتك، وخضع لسيطرتك وسلطتك، عطل فيه الإرادة التي تحركه وأفسد على الله الميكانيكية التي يركبها فيه لتسيره وكأني بقوة الإرادة من النباتات التي قل ما تنمو في هذا الجو المصري، وندر ما تطب في تربته؛ وأنك إن تظفر من القوم برجل قوي الإرادة، فكأنك ظفرت منه بمادة هذه القوة وعنصرها. ومن الذي ينكر على صاحب هذا التاريخ أنه في طليعة من ذكت قوة إرادتهم: واشتد في نفوسهم الاستقلال في الرأي، وقليل هم.
ولا يغيب عنك قوة منطقه وسحر بيانه، وشدة عارضته: فكأنما يكسب قضيته في ذاكرته، قبل أن يقف لها في ساحة المحاجة والجدال: كما كان نابوليون العظيم يهزم عدوه فوق خريطته الحربية: قبل أن تضمه وإياهم سوح
1
الحرب وتجمعه بهم ميادين القتال.
ولد سعادة سعد زغلول باشا بناحية ابيانا من أعمال مركز فود عام 1860: فهو اليوم في الحول الرابع والخمسين، ولكنك لو أشرفت عليه لرأيت ثم شيخا أشيب يسند في حدود السبعين، وكذلك عظماء الرجال تذيب جسومهم تلك الحرارة المتأججة في أجوافهم وجنوبهم وكلما ازداد ضرام تلك الحرارة الروحانية استمد وقوده من اللحم والدم، وأنت فلا ترى رجلا نابغة إلا وجدته أبدا أكبر من عمره الحقيقي حتى إنك لتلقى الشاعر العبقري - والشاعر أحر خلق الله روحا، وأكثر عباد الله توهجا - يبدو لك في مظهر الشيخ الوقور، وهو لا يعدو أن يكون شابا في مقتبل العمر وحداثة الشباب، ولشد ما يخطئ الناس إذ يقدرون عمر الرجل العظيم كما يقدرون أعمار سائر البشر، كأنهم لم يعلموا أن دقيقة العظيم تعدل يوم غيره.
فلما حبا إلى السابعة من عمره دخل مكتب القرية وظل به حوالي خمسة أعوام، ثم شخص إلى دسوق لتجويد القرآن فجوده على الشيخ عبد الله عبد العظيم وكان أخوه الرجل الطيب الشناوي أفندي زغلول يومذاك رئيس مجلس مركز دسوق، ولم يلبث المترجم به في دسوق طويلا، بل جاء إلى القاهرة موطن عظمته ومهد شهرته ومعهد نباهته ودخل الأزهر ولبث يتلقى فيه العلوم خمس سنوات، وكان السيد جمال الدين الأفغاني حينذاك بالقاهرة، فلم يكد يستقر بصاحب الترجمة المقام في القاهرة حتى تعرف إليه وإلى تلاميذه أمثال المرحوم الأستاذ محمد عبده والهلباوي والباجوري والشيخ عبد الكريم سلمان، فتلقى على الأستاذ محمد عبده القطب على الشمسية وبعض كتب في التوحيد وكان الأستاذ إذ ذاك من علماء الأزهر، ثم تعين بعد ذلك صاحب الترجمة محررا في الوقائع المصرية وكان يرأس تحريرها الشيخ عبده، وكان من بين كتابها ومحرريها الشيخ سلمان والسيد وفا زغلول شقيق نصر بك زغلول المحامي، وأقام في تحرير الوقائع سنة وبضعة أشهر يكتب بتوقيعه مقالات في الاستبداد والشورى والأخلاق، وكان قبل تعيينه في الوقائع المصرية قد لخص كتاب ابن مسكويه وطبع منه أغلبه، وكان يكتب مقالات في جريدة مصر وكان يديرها ذلك الكاتب الحمي الأنف الأبي القلم أديب بك إسحاق، وكان بين الذين يشايعون تلك الجريدة من الكتاب سليم نقاش، وكذلك كان يوافي بكتاباته صحف البرهان والمحروسة والتجارة، وكلها كانت للمأسوف عليه سليم نقاش، وكان الشيخ حمزة فتح الله يكتب إذ ذاك في صحيفة البرهان.
والقارئ يرى من ذلك أن المترجم به بدأ حياته العظيمة بشباة القلم وسنان اليراع يستنفد في جميع ما يكتب عصارة ذلك الذهن القوي بطبيعته الذي لا عون له إلا روح الزمن، ولا خلابة له إلا من روح صاحبه، وماذا أنت متصور من مبلغ سحر كاتب يكتب ليستمع لرنات براعته وتوقيعات قلمه أمثال أديب إسحاق ومحمد عبده وسليم نقاش ومن علمت من الفحولة الأعلام، ولعمري ما كانت الصحف وقتذاك كما ترى منها اليوم يتهجم على ميدانها التلميذ والسوقة والكاتب الفج والدعي والغبي والركيك حتى لا تكاد تقرأ في كثير منها بعد أحداث اليوم وأنبائه إلا موضوعات إنشائية لعلها نماذج المعلمين في المدارس، ولا تأخذ عينك بين أعمدتها وأنهارها إلا قصائد نسيب يصف فيها بعض هؤلاء الرصاصين وجه حبائب ولدن لهم في مخيلاتهم يشببون بوجوه لهن سافرات - وإلى جانب هذه القصائد السافرة مقال مطول في وجوب الحجاب - إلى آخر ما يقرع سمعك من كل مضحك مبك.
ولا تعجب بعد ذلك إذ تعلم أن مقالات صاحب الترجمة في الوقائع والبرهان كانت من مهيئات الثورة ومضرماتها، فكأنما ألقت إليه الأقدار ذلك القلم الذي وضعته من قبل بين أنامل جان جاك روسو، فأقام به العالم وأقعده.
وعين المترجم به بعد تحرير الوقائع معاونا في الداخلية ثم ناظرا لقلم قضايا الجيزة على أنه لم يلبث بذلك القلم إلا بضعة أسابيع حتى إذا فصلت الثورة العرابية فصل من وظيفته، وكان انفصاله بتهمة أنه من تلاميذ الشيخ محمد عبده، وأنه من المنتمين إلى المرحوم البارودي واكتفوا من عقابه بفصله.
ويجمل بنا أن لا ننسى تلك الحسنة الكبرى التي أسداها المترجم به إلى اللغة؛ إذ كان يصحح ركيك المقالات، وفاسد الأساليب وعاثر العبارات، التي كانت تنتهي إلى الوقائع أيام كان من محرريها، فكان ذلك درسا عمليا لنشر اللغة، واتساع نطاقها، وإبرائها من ذلك الاضطراب العامي الذي يأبى أشباه العامة إلا أن تصاب اللغة منه بعدواهم، وكانت طريقته في ذلك أن ينشر الرسائل بنصها، ثم يجيء بعدها بما هو أصح منها لغة وأفصح سياقا، حتى يتبين الصحيح من المعتل، وينكشف السليم من المختل، وحتى يعلم الذين في ألسنتهم مرض - لا زادهم الله مرضا - أن بضاعتهم قد بان فسادها، وأن تجارتهم اللغوية قد وضح وكسها وكسادها - ونحن أن نعجب فعجب لهؤلاء الذين يأبى العرف اليوم إلا أن نسميهم من باب المجاز كتابا، وإنك لتشفق عليهم أن يبدو للناس عوارهم فتنقح لهم عبارة قد فسدت أو جملة ركت أو اصطلاحات أخلقت أو تراكيب ابتذلت على أنهم ما يزالون يريدونك على تهريب هذه المواد المحظورة ونشرها على حساب اللغة وحساب ضميرك، ثم هم بعد ذلك ساخطون غاضبون لأساليبهم «العصرية» في حسناتهم؛ وهي إن انتسبت إلى أي عصر لبرأ إلى الزمن كله من الانتساب إليها، وإذا أنت جئتهم من جانب النصح والاستدراك تشفع بعضهم إليك أنهم إنما يكتبون موضوعات علمية، فكأنما قد كتب على أبواب الموضوعات العلمية «ممنوع دخول اللغة الصحيحة».
Unknown page