Batal Nahda Misriyya Kubra Sacd Zaghlul Basha
بطل النهضة المصرية الكبرى سعد زغلول باشا
Genres
وما كان من تلك الطريقة المثلى التي سنها المترجم به إلا أن صحت لغة الدواوين من علتها وقامت نهضة مدهشة في مصالح الحكومة بلغ منها أن سواد الموظفين كانوا يهرعون إلى المدارس الليلية لتعلم اللغة العربية الفصحى.
ثم دخل في سلك المحاماة مع المرحوم حسين أفندي صقر، وكان هذا رئيس قلم في نظارة الداخلية ثم فصل بسبب الثورة، فانتقل صاحب الترجمة معه في المحاماة أمام المجالس الملغاة، ولم تكن المحاماة في ذلك الحين شفوية، بل كانت بتقارير تتبادل بين طرفي الخصوم أو وكلائهما، ثم اتهم بالاشتراك في جمعية سرية كان قد ألفها شخص فرنسي جاء من الجزائر واجتمع ببعض القوم في مصر فأقاموا منهم جمعية سرية سموها جمعية الانتقام، على أن هذه التهمة التي قرفوه بها والظنة التي أخذوه بأسبابها لم تكن لتروعه ولم تكن لترهبه؛ لأن الرجل الكبير كالكرة المطاطية تقذف بها إلى الأرض وتأبى هي إلا سموا وارتفاعا، ولا ترى التهم تروج إلا حيث يروج الكذب ولا يروج الكذب إلا حيث تذل النفوس وتفسد الطبائع والناس كما علمت يحبون التهم الحب كله ويخفون للظنون ويبتهجون، وهم لا يريدون فيها قضاة ولا يسألون عليها دفاعا ولا يطلبون لها شهودا ولا محلفين؛ لأنهم يخافون أن يفسد التحقيق عليهم تلك اللذة النفسانية التي أحدثتها التهمة فيهم، فإذا ما برأ القضاة متهما فاعلم أن في الناس ألوفا لا يزالون يعتقدون بإدانة ذلك المتهم البريء.
ولا جرم أن تكون التهمة التي تجنوها على صاحب الترجمة إفك أفاك وفرية مفتر وانتقام حقود، وهل كانت الطبيعة القوية الوثابة التي فطره الله عليها، لتستطيع أن تعمل ساعة واحدة في ظل المكامن والمخابئ، هذا ولم يكن لصاحب الترجمة معرفة بأحد من رجال هذه الجمعية ولا من أعضائها ولكن لما اكتشفت الحكومة أمر هذه الجمعية سنحت لبعض رجال الحكومة الفرصة المطاوعة فعمدوا إلى الانتقام من أعدائهم فكأنهم لم يكتشفوا «جمعية الانتقام» إلا ليقيموا لأنفسهم مثلها؟
وكان من الذين استهدفوا لشرة هذا الانتقام صاحب الترجمة وشريكه المرحوم حسين أفندي صقر، وتألفت لجنة لمحاكمتها مع زعماء هذه الجمعية من بعض القضاة الأجانب الذين جيء بهم من بلجيكا للاشتراك في تشكيل المحاكم الأهلية تحت رئاسة قاض منهم يسمى فلمنكس وعضوية مسيو دهولس الذي كان مستشارا في محكمة الاستئناف وانفصل عنها منذ زمن قريب، وحسين بك واصف - حسين باشا واصف الآن - والمرحوم حامد بك محمود ومحمود بك سالم.
فلما تناولت اللجنة القضية وبحثتها تبين لها براءة صاحب الترجمة وشريكه وعجبت لإدخالهما في هذه التهمة النكراء، وأقرت بأن لا وجه ثمت لإقامة الدعوى عليهما ولامت الحكومة على اتهامهما ظلما وعدوانا وأمرت بإخلاء سبيلهما للتو واللحظة، وقد لبثا في السجن سبعة أيام، على أن الحكومة لم تنفذ هذا الأمر بل أبقتهما 98 يوما وحاولت نفيهما إلى السودان، وأعد عثمان باشا ماهر المعروف بالسنيورة محافظ مصر وقت ذلك مشروعا بذلك تقدم إلى مجلس النظار، ولكن المجلس لم يقر عليه إذ لاحظ المرحوم فخري باشا ناظر الحقانية إذ ذاك أن النفي المطلوب يعد ضربة للقضاة الأجانب الذين التجأت مصر إلى عونهم على توزيع وجوه العدل في هذا البلد ولا سيما أن القرار الذي أصدره بأن لا وجه لإقامة الدعوى كان باكورة أعمالهم، ولكن على الرغم من هذه المعارضة ظل المترجم به رهن المحابس حتى رفعت ظلامته إلى المستر مكسويل وكان نائبا عموميا أمام المحاكم الأهلية، فأخذه العجب لذلك وأمر على الفور بإطلاق سراحهما فكان ما أمر.
وعاد المترجم به بعد أن ردت إليه حريته الشخصية إلى الاشتغال بالمحاماة مع شريكه، وكان ذلك إبان افتتاح المحاكم الأهلية وكان أول من تقيد اسمه في محكمة مصر محاميا وكان ذلك عام 1884.
وانفسح إذ ذاك المجال في قضايا الجنايات للقوة الخطابية، وبدأ المحامي يدلي بدفاعه أمام منصة القضاء ويبسط حججه بلسانه ويستنصر ببلاغة مذودة، وهنا تجلى للناس صاحب الترجمة يحمل تحت لسانه وفي تضاعيف صوته موهبة عظيمة الشأن جليلة القدر كانت حرارتها من قبل ذائبة في مداد قلمه، وإذا به ذلك الخطيب المفوه العظيم الذي إذا خطب الناس قاد آراءهم وقاد مع آرائهم إراداتهم، وإذا تكلم رفعهم فوق أنفسهم وأحدث فيهم قوة جديدة لم تكن تجري في شرايينهم وإذا أراد أن يهزم أفكار سامعيه، ويفتح أذهانهم نثر فيهم روحه فكلهم إذ ذاك قطعة منه لا تزال تنجذب إليه بقوة المغناطيسية المنطقية.
وكانت صناعة المحاماة في ذلك العهد على أسوأ حال وأحقر مكان وأحط قدر لا يلقي بنفسه في تيارها الكدر إلا الذين استهدفوا لسوء القالة وشين السمعة وخسران الكرامة، وقد كان من ضعف ثقة القوم بأهل هذه الصناعة وخشية شرهم ورهبة ضيرهم وأذاهم أن لقبوهم بالمزورين ودعوهم بالأشرار أو ما هو في اصطلاحهم العامي «المرازين» ولكن المترجم به كان العامل على تطهير سمعة هذه الصناعة الإنسانية الكبرى وإعلاء كلمتها والنهوض بها في عثرتها والسمو بها من كبوتها ورد كرامتها عليها، ولم يكن ليخشى على مكانته الشخصية أن يصيبها شيء من سوء تلك السمعة إذ لا يضير الفيل العظيم أن يكون مركبا للملوك والعظماء، وما كان في ذلك إلا كالشمس تنفذ بضيائها إلى الأماكن الوخمة والقيعان الوبيئة والمراتع المظلمة فتبدد وضمها وتقتل جراثيمها وتهتك حجاب ظلماتها وترسل في جوها مادة الحياة وتنشر في منافسها مادة الصحة.
ولبث يرفع من شأنها برفعة شأنه ويطهر ذكرها بطهارة ذكره حتى عام 1891؛ إذ سمت مكانتها واستوثق لها أمرها وشرفت سمعتها، وما كاد هذا العام ينصرم ويقبل العام التالي حتى اختارته محكمة الاستئناف نائب قاضي بها، وبذلك كان أول محام في مصر رفع قاضيه، وقد كان لهذا التعيين نشوة ابتهاج وهزة جذل بين لداته المحامين فلما كان اليوم الثامن عشر من شهر يوليه عام 1892 أقام له جلة المحامين وخيرتهم مأدبة كبرى في نزل حديقة الأزبكية، واشترك معهم في تلك الحفلة الكبرى رئيس محكمة الاستئناف في ذلك العهد أحمد بليغ باشا - وإسماعيل بك صبري - إسماعيل صبري باشا - وكيلها، وأحمد حشمت بك - حشمت باشا - الأفوكاتو العمومي للمحاكم الأهلية، فلما انتظم عقد الحفل انبرى رأس شعراء هذا الجيل سعادة إسماعيل بك صبري - باشا - فقال: إن تعيين حضرة الفاضل سعد أفندي زغلول عضوا في محكمة الاستئناف لدليل على أن المحاماة والقضاء إخوان رضيعا لبان، وغصنان صنوان، حتى لقد راقني أن أتمثل بقول أبي الطيب المتنبي:
هذي منازلك الأخرى نهنيها
Unknown page