إن هؤلاء الناس لا غنى لهم عن قوانين تحكمهم كتلك القوانين التي تحكم جبابرة ڤاجنر، ولا يتأتى إخضاعهم لتلك القوانين إلا بالتواطؤ على شحن نفوسهم بالتقاليد والأوهام وملء خيالاتهم بمظاهر الهيبة والتوقير. ومن البديهي أن الحكومة إنما يتولاها القلائل الذين يقدرون على حكم غيرهم، ولكنها متى انتظمت أدواتها وآلاتها فالغالب أن تجري شئون الحكم بغير روية على أيدي أناس من غير القادرين على تأسيسها، ويتصدى لها القادرون حينا بعد حين لترميمها وإصلاحها كلما تخلفت طويلا وراء خطوات الحضارة في تقدمها أو اضمحلالها ...
يطل من منزل جيرانه.
ولا تزال الحيرة جاثمة حتى يفتح الزمن على عقول الساسة بوحي البطولة، الذي يلهمهم أن عملهم لا ينحصر في تلفيق القوانين والنظم لكبح الدهماء وضمان البقاء لغير الأصلح، وإنما الواجب عليهم تنشئة جيل يعتمد على إرادته وذكائه، لتحقيق رخاء المجتمع وصلاح أحواله طواعية في غير كلفة ولا مشقة.»
ولا يفهم من كل ما قاله «شو» في سخريته بالديمقراطية والنظم البرلمانية أنه يدعو إلى إلغاء «البرلمانات» والاستغناء عن الحكومة النيابية، فقد يكون وجودها أسلم من عدمها في تقديره، ولعلها وقاية للشعوب مما هو أخطر منها وأدهى، وحسبها عنده أنها منفس للتفريج عن الصدور بالمناقشة واختلاف الآراء وإقناع المختلفين بأنهم أحرار فيما يقولون ويعملون.
وقد استشاره «جود» الفيلسوف في ترشيح نفسه للنيابة، فكتب إليه يقول ما فحواه: إن الفلاسفة الذين دخلوا البرلمان غير قليلين - ومنهم ميل وبرادلو ووب الذي كان عضوا في الوزارة - فهل صنعوا شيئا هناك؟
وقال له إن تشرشل لم يكن عضوا في البرلمان حتى الحرب العالمية، ثم ساقوه إلى دائرة انتخابية أخلوها له لأنهم في حاجة إليه، وأنه هو نفسه قد رفض النيابة يوم عرضوها عليه وكرروا العرض مرات، ثم لم يندم قط على الرفض والإصرار.
وقال له أخيرا: إن ورق اللعب لا يزال أمامك على المائدة، فإن شئت فجرب حظك والعب ورقك ... فلما مضى جود في عزمه، ولم تثنه عنه نصيحة أستاذه الأولى أرسل إليه تذكرة بريدية يقول فيها: «حسنا، إنك سوف تتعلم على الأقل شيئا واحدا، وهو أن تعرف كيف لا يتم العمل» ... ثم شفعها بتذكرة ثانية قال فيها: «امض في عزمك بكل وسيلة، فقد تحصل على تجربة مباشرة لا تخلو من فائدة للفلاسفة السياسيين.» •••
لقد كان «شو» منطقيا في سماحه للمجالس النيابية بالبقاء، وسماحه لتلميذه «جود» بترشيح نفسه، فلو أنه أشار على الأمم بإلغاء المجالس النيابية، وسألوه عوضا منها لما وجدوا عنده عوضا غير «الدكتاتورية»، وهي شيء يحصل بالقوة، ولا يحصل على حسب الطلب بالانتخاب أو الاقتراح.
كان منطقيا في هذا وكان مجافيا للمنطق في كل ما عداه؛ فقد نظر إلى الدكتاتورية كأنها تجربة مفتوحة، ونظر إلى الديمقراطية كأنها تجربة منتهية، فعكس الحقيقة في الحالتين، وأغلق حيث ينبغي أن يفتح وفتح حيث ينبغي أن يغلق.
فما كان حكم العصور الماضية على أغلبه وأعمه إلا حكما دكتاتوريا على وجه من الوجوه، فاستنفذ كلمته واستحق حكم التاريخ عليه، وما جرب حكم الحاكمين بأمرهم تجربة حديثة إلا جر البلاء عليهم وعلى بلادهم وعلى العالم بأسره. في حين أن الديموقراطية تبتدئ تجاربها في نطاقها الواسع، فتصلح تارة أو تسوء، فلا تهبط في السوء مهبطا دون حكم الحاكمين بأمرهم إذا ساء. (5) الفلسفة الأخلاقية
Unknown page