119

Bahr Mutawassit

البحر المتوسط: مصاير بحر

Genres

وأضيف إلى العناصر الثلاثة (الإخلاص والفلسفة والدراية) عنصر رابع؛ ضمانا لفوز النصرانية الناشئة، والعنصر الرابع هذا هو الإيمان الذي يبذره الدين الجديد في نفوس البائسين، هو الأمل الذي يمن به على المضطهدين، هو السلوان الذي يلقيه في قلوب الفقراء ... وليس مجهولا أن كانت الإمبراطورية الرومانية تشتمل على كتائب من البائسين أكثر من اشتمالها على كتائب من الجنود؛ ولذا تجمع تلاميذ يسوع وأنصاره الأولون في جميع الإمبراطورية الرومانية، لا في بلاد الجليل وحدها، وذلك من السائلين والعمال والفلاحين والعجائز والفقراء والأميين الذين كانت الأناجيل ترن في آذانهم كالموسيقى الخالصة في أثناء التبشير. وفي البداءة كان الموسرون من أبناء الوطن يسخرون من مذهب الفقراء الجديد هذا الذي يعنى بالمرضى والبرص. وبما أن النصارى الأولين كانوا من الصعاليك، لا من المثقفين، فإن المصادر التاريخية عن بدء النصرانية قليلة إلى الغاية، والحق أن النصارى الأولين كانوا يعرفون أحيانا صوغ الكلام دون الكتابة، ولم يعتنق النصرانية في قرونها الأولى غير قليل من الأغنياء والشرفاء.

ولنتمثل كراما

18

من «كنبانية» وخزافا من فرغامس وحمالا من الإسكندرية وراعيا من رودس وبعض الصباغين والطهاة والحلاقين المقيمين بأحياء وراء الميدان الروماني المعروف بالفوروم، أولم يكن على هؤلاء الناس أن يبدوا راضين كالسعرى أو ضاحكين خفية حين سماعهم لوقا يرسل الفقير عازر إلى الجنة ويرسل جاره الغني إلى النار، لا لأن هذا الغني قد اقترف إثما، بل لأنه تمتع بأمواله في هذه الحياة الدنيا؟ أولم تقض الضرورة بأن يطبقوا على أنفسهم قول الأنبياء الجدد: «الويل لكم أيها الأغنياء؛ لأنكم نلتم عزاءكم، الويل لكم أيها المشبعون، فإنكم ستجوعون!»

وعندما كان الأغنياء يقرءون هذه النصوص ويعربون عن ذعرهم، كان الأساقفة الماكرون يحملون إنجيل متى الذي يعرف إظهار جميع ذلك بلياقة واحتشام. وكان أغنياء ذلك العصر يودون أن ينالوا ضمانا من كل ناحية فينيطون قرارهم بأغرب الطوالع، ومن ذلك أن تسابق حصان روماني وثني وحصان النصراني مارناس فسبقه حصان هذا النصراني فرضي كثير من الحضور أن يتعمدوا.

وبلغ العالم الوثني من الخرافية ما فتن معه المبدأ القائل بالآخرة، والذي بشر به بحرارة، كثيرا من الناس. وما كان النصارى الأولون ليبدوا في وقت أكثر من ذلك ملاءمة لأنفسهم وللقرون القديمة، وما كان من عمومية مناحيهم أنقذ الحياة المشتركة حول البحر المتوسط في عصر كادت تنحل فيه. ولو وجد الجرمان، الذين أغاروا على الإمبراطورية مرة أخرى في القرن الرابع، رومة وثنية ما لاقوا أقل مقاومة لتداعي حضارة القرون القديمة.

لقد هرمت رومة القوية العظمى، ومع أنها كانت تمطل سبحة مستعمراتها الساحلية في كل قرن صرت ترى اليوم تناقص هذه المستعمرات مقدارا فمقدارا، ولا صورة أكثر تأثيرا في النفس، حول ميل سلطان رومة إلى الزوال، من تقدم الصحراء المستمر على طول سواحل آسية الصغرى وشمال أفريقية منذ القرن الرابع لما ينطوي عليه هذا من تهديد العالم.

ومع ذلك كان الوضع التاريخي يكرر وفق منطق باهر، ومما حدث منذ خمسة قرون أن أجيرت حضارة اليونان الآفلة من قبل دولة رومة الفتية الباغية، واليوم تلقف النصرانية الصاعدة هذه الحضارة اليونانية من أيدي رومة التعبة، ولم يقم الرومان ولا النصارى بعمل في عالم البحر المتوسط القديم أعظم من إنقاذ حضارة اليونان.

10

أخذت غابات شواطئ البحر المتوسط تزول، ولهذه الظاهرة الألفية أسباب كثيرة، ولم تكن النصرانية غير واحد من هذه الأسباب. وكانت القرون القديمة قد حافظت على هذه الغياض المقدسة، وكان الكهان ينظمون ذلك ولكن مع الاستناد إلى عوامل صحية أيضا، وكانت الحكمة والفن أكثر صفاء في الأزمنة الأولى وأقرب إلى الآلهة والعناصر. وكان الناس يعرفون أن الغابات في الجبال تجعل الهواء أعظم رطوبة وتزيد المطر نزولا، وعلى العكس كان شعور اليهود والنصارى نحو الطبيعة يختلط بعبادة الرب الخفي فلا يدارون الغاب.

Unknown page