وبالحقيقة أن السيدة مريم هي كما ظنها ذلك الشاب؛ لأنها مع كثرة انشغالها وضيوفها في تلك الليلة الحافلة، ومع سرورها بمجيء ولدها الذكي النجيب من المدرسة، وعلى رأسه أكاليل الفخر والفوز، ومع أنها كانت تتبعه بنظرها كيفما ذهب وانتقل؛ كانت تظهر رزينة هادئة لا تضحك ولا تتكلم بصوت عال ولا تضج ولا تركض، حتى إنها لم تظهر سرورا زائدا لئلا يقال عنها بأنها خفيفة. ولم تظهر عدم اكتراث أو تهامل بالقيام بواجب إرضاء ومسرة ضيوفها، بل إن البساطة الطبيعية كانت على وجهها والحرارة الودادية الإخلاصية كانت تطيب حديثها، وبالإجمال كانت تظهر العظمة الزائدة والهدوء التام؛ مما يجعل الإنسان يظن أنها متكبرة، وهذه هي الحالة الوحيدة التي تعاب عليها.
وكأن عيني ذلك الشاب أقسمتا أن لا تفارقا حركاتها فأحدقتا بها طول تلك السهرة، وأول شيء قدر على استنتاجه - مما دل على معرفة تلك السيدة بأصول آداب السلوك - هو أنها نسيت نفسها بالكلية، ولم تفتكر في غير مسرة ضيوفها الذين ضحت بسعادتها لأجل سعادتهم شأن المرأة الفاضلة. ومما كان يزيد وجهها الوسيم جمالا هو استقبالها وبشاشتها للضيوف، ومخاطبتها كلا منهم بالحديث الذي يناسب ذوقه وسنه ليكون مسرورا. ولم تظهر على وجهها لوائح الانشغال أو القلق على الإطلاق، فكأن كل أفكارها كانت حائمة حول مسرة ضيوفها، ولا فكر يقلقها خارج قاعة الاستقبال، مع أن واجباتها كانت كثيرة، ولكنها بتعقل ودراية رتبت كل الأمور على ما يرام حتى تتفرغ للقيام بواجبات الضيوف.
وكانت تلاقي الداخلين إلى الباب إن كن نساء، وتنهض لهم فقط إن كانوا رجالا. ومما أعجب الشاب المنتقد حذرها الزائد وملاحظتها الغريبة عند الكلام حتى لا يفرط منها ما تؤاخذ عليه، ثم صبرها وجلادتها على تقديم وتعريف ضيوفها بعضهم ببعض، إن كان منهم من يجهل الآخر. وكانت تلفظ اسم الشخص بهدوء وضبط وبصوت مسموع حتى لا يصير التباس بفهم الاسم، والذي جعله أن يهز برأسه إعجابا هو استعدادها التام، حتى إنها لم تغفل عن وضع طاولة عليها كتب وجرائد ومجلات وكتب وصور، حتى إذا ضجر الضيوف من الحديث يتسلون بسواه مما هو جائز في الاجتماعات.
ولما اكتمل اجتماع المدعوين كانت مع زوجها الخواجة منصور يحدثانهم بأحاديث عمومية حتى يكون التفاتهما شاملا الجميع على السواء، وحذرا من قصور يبدو من جانبهما أو عتب من جانب المدعوين مما يجب منعه في الحفلات الكبيرة والصغيرة.
وسمع الشاب صوت السيدة مريم قد ارتفع نوعا وترحيبها قد زاد عما قبل، فنظر ليرى السبب وإذا بعائلة متأخرة قد دخلت بعد الجميع، فلاقتها تلك السيدة بترحيب زائد أزال خجلها من التأخير عن الحضور ، فهز رأسه وقال: لو كان كل رجل وامرأة من بني وطننا يحسنان تقليد الإفرنج والمحافظة على عوائدنا الحميدة كهذه السيدة، والجمع بين الحسنين ودرس فروعهما درسا مدققا؛ لكان كل كاتب يستبدل لهجته الانتقادية على تمدننا وتقدمنا الأدبي بالاستحسان لهما.
ولم يكن هذا الشاب المراقب محبا للانتقاد من طبعه لغير سبب، بل كان حاملا له عليه ما رآه من بعض الضيوف مما لو قابله بصنيع السيدة مريم لظهر الفرق بين الحسن والقبيح جليا، وهو أن بعض أولئك المدعوين من نساء ورجال كانوا يدخلون القاعة ويذهبون توا إلى المقاعد، فيجلسون بدون أن يصافحوا يد ربة البيت أو أن يتكلموا معها برهة قبل كل شيء؛ لأن هذا من أول الواجبات على الزائرين. وبعضهم كانوا يرجعون فيسلمون عليها بعد جلوسهم بدقائق وبعد أن يكونوا قد سلموا على أصدقاء لهم في المجلس، وكثار من الشابات والشبان الذين كانوا يتكلمون بلغات أجنبية عوضا عن لغتهم التي يجب أن تكون لغة المجلس؛ لأن الجميع يفهمها، ولأن التكلم بلغة لا يفهمها الجميع محظور إلا في ظروف مخصوصة إذا لم يكن مفر من التكلم بلغة أجنبية لا يفهم سواها.
وكانت السيدة مريم خبيرة بقواعد الحديث، وكأنها من حين قابلت أول ضيف في هذه الليلة وضعت أمام عينها قول أحد الحكماء: «إن الحديث لذة المحدث لا المحدث.» فكانت تنتقي أكثر الأحاديث ابتعادا عن الشخصيات أو ما يدنو منها، وتختار أقربها إلى الفائدة واللذة للجميع؛ حتى لا تجرح عواطف أحد وتجلب الضجر عليه بكلامها. وعلى ذلك انقضى جزء من السهرة بدون أن يشعر به الناس؛ لأن لطف وأدب أصحاب المنزل كانا قد أثملاهم فألهياهم عن معرفة الوقت الذي مر بسرعة غريبة.
وآثرت السيدة مريم الطريقة الإفرنجية عند الدخول إلى غرفة المائدة، فأخذت بذراع أحد ضيوفها الأفاضل ودخلت الغرفة التي كانت مرتبة أجمل ترتيب، وأنواع الزهور الجميلة في كل مكان فيها تنبعث منها الروائح الزكية فتنعش القلوب، ولا غرو فإن غرفة المائدة يجب أن يعتنى بها أكثر من كل غرفة في البيت ، حتى ومن ردهة الاستقبال في مثل هذه الحفلات.
جلست السيدة مريم على كرسي في رأس المائدة وجلس إلى يمينها الرجل الذي رافقها إلى المائدة، وكان الأكل عربيا وإفرنجيا أي «الجيد من النوعين». ولم تدل ضيوفها على كراسيهم، بل تركت لهم الحرية المطلقة في ذلك.
وبالحقيقة أن ذلك الشاب الذي شبع من السرور بلطف وأدب سيدة البيت لم يأكل كثيرا؛ لأنه عجز عن «حمل بطيختين بيد واحدة»، وكان يفضل الدرس على الأكل، فوجه كل اهتمامه إلى الأول ولم يبال كثيرا بالثاني.
Unknown page