واستأنف بتدقيق مراقباته التي كان أكثرها موجها إلى ربة البيت التي كانت على مائدة الطعام مثلها في ردهة الاستقبال، محافظة أتم المحافظة على آداب السلوك وواجبات التهذيب؛ فإنها لم تتكلم بشأن المائدة والطعام ولم تشبع ضيوفها «أعذارا» من الغباوة عن تقصيرها؛ إذ أي شيء يمنع المرأة عن القيام بواجباتها إذا كانت تعرف بأنه ينقصها شيء؟ أو أي عذر يقبل لها متى كانت قادرة على عمل الشيء ولم تعمله؟ أو أي ذوق في الاعتذار عن أشياء فوق المقدرة، وليس من الحكمة أن يعمل الإنسان ما هو ضد إرادته وفوق مقدرته؟ فالمرأة لا يجب أن تقصر إذا كانت قادرة، ولا أن تعتذر إذا لم تكن قادرة؛ لأن الأمرين ممقوتان. ولم تكن السيدة مريم تلتفت إلى الخدام ما بين الدقيقة والدقيقة، ولا تنظر إليهم بلهفة كأنها تخاف أن يأتوا عملا مضرا، ولم تتبعهم بعينها أو تظهر القلق من عملهم، وأنهم لا يحسنونه وأشياء كثيرة أخرى تدل على عدم وثوقها بهم؛ لأنها استدراكا لهذا كله كانت قد أعدت من تعتمد عليهم وباتت مرتاحة الفكر بدون أن تضطرب وتجلب على نفسها المؤاخذة وعلى الخدم الخجل. وما جعل الشاب مسرورا جدا هو تجنب تلك السيدة للعادة السورية المذمومة التي يأتيها الأغلب، وهي عادة إجبار الضيوف على الشره والأكل من كل نوع، وملاحظة صحون الضيوف، ومعاتبتهم لأنهم لم يأكلوا من لون الطعام هذا ولا من ذاك، وغير هذه أمور تزعج الضيوف لا تريحهم بل تجعلهم «غرباء»، وتجعل عين صاحبة المنزل محدقة بهم كل دقيقة. فإنها عرفت ما عليها، وأكثرت من ألوان الطعام الفاخرة والشهية المأكل ووضعتها أمام المدعوين، وما تبقى من الواجبات يكون على الضيوف الذين يجب أن يستعملوا الحرية التامة؛ لأنهم إنما للانبساط دعوا.
وتولت السيدة مريم زعامة الحديث، فكان حديثها المستظرف يزيد الناس شهوة إلى الأكل، وكان «حديث مائدة» أي عموميا ونقيا ومحدثا به بصوت مسموع حتى يحيط الجميع به فهما، وكان هذا الحديث سلسلة متصلة الحلقات بين الآكلين.
ولما انتهى دور ربة البيت حول ذلك الشاب وجهه ونصف فكره إلى الضيوف، فرأى من البعض ما يسره ومن البعض الآخر ما يسيئه. ومن أقبح ما رأى من بعض السيدات أنهن كن متكئات على مائدة الطعام قبل الابتداء بالأكل كأن المائدة وسادة أمامهن ... والبعض الآخر كن بعيدات عنها مسافة قدمين أو ثلاث، وغيرهن لم ينتبهن لوضع الفوط جيدا فسقطت على الأرض وسقط مكانها الطعام الذي لطخ أثوابهن الجميلة.
وفيما القوم على المائدة وقفت سيدة جميلة بكل استياء وعبوسة وتكلمت بغيظ كلاما عاليا، فانقطع الجميع عن أكلهم ونظروا إليها ومنهم من وقف لوقوفها. ولماذا كان كل هذا؟ لأن أحد الخدم - ومسكين هو - أراق بدون قصد ولا انتباه المرق على ثوبها الجميل. فهذه السيدة عوضا عن أن تبتسم في وجهه بلطف وتنظر إلى اضطرابه مزيلة بأدبها ورفقها بعض خجله؛ وقفت توبخه بعنف وغيظ وتعنفه بكلام قاس حتى أضحكت البعض منها وضاعفت خجل ذلك الخادم المسكين دون أن ينتفع ثوبها بشيء ...
ومما استلفت أنظار الشاب قهقهة إحدى النساء، وهمس امرأة أخرى مع جارها على المائدة، ونظرها إلى بعض الجلوس بطرف عينها مبتسمة، كأنها تتكلم عنهم أو تهزأ بهم. وكانت هذه السيدة كلما وضع أمامها لون من الطعام تجد فيه علة وتنظر إليه باحتقار. والغريب من هذه السيدة «المنتقدة» أنها لم تحسن انتقاد نفسها حينما قدمت الطعام لفمها بالسكين مع أن الشوكة وجدت لذلك، ووجدت السكين لتقطيع اللحم. وانتبه أيضا لثقالة سيدة كانت تزيد على رفيقتها «العزيمة» وتلح عليها بالأكل وتقدم لها الصحون، مع أن ذلك ليس من واجباتها بل من واجبات خادمي المائدة. وفيما هو ينظر ويفتكر وينتقد ألف أمر وأمر، كان يجب على كل سيدة استدراكه إن كان في ردهة الاستقبال أو في غرفة المائدة حيث تكون معرضة لانتقاد الجميع، طرق أذنيه صوت سيدة تقول لرجل كان جالسا بينه وبينها: إنه لم يزل ينظر إلى الباب نظرة من ينتظر أحدا وهو مشتت الأفكار.
فأجابها الرجل: ربما كان بانتظار أحد الضيوف أو بانتظار رفيق له لم يحضر.
فالتفت الشاب ليرى من هي تلك السيدة فتلاقى نظره بنظرها وهي تنظر إلى جارها نظرة معنوية، وسمعها تقول مازحة: إنك أصبت الغرض؛ لأن رفيقه ينشر على وجهه الاصفرار والكمد إذا لم يحضر ويمنعه عن الأكل إلا تظاهرا ... إنكم أيها الرجال تتظاهرون دائما بما ليس فيكم، وتتجاهلون الأمور وما أنتم بجاهلين.
فقال لها مبتسما: وما عسى أن يكون أمره يا ترى؟
وكانت لحظت بأن أحد الحضور ينظر إليهما، فأجابته أن ليس هذا مقام إيضاح.
وعرف الشاب بأن كلامهما كان عن فؤاد صاحب الوليمة؛ لأنه كان قد قرأ على وجهه ما جعله أن يصدق قول تلك السيدة التي لما تكلمت أيقظت بكلامها أفكاره، فقال في نفسه: إنها صادقة بقولها، إنه لا ينتظر «رفيقا» بل «رفيقة»؛ لأن تشتت أفكاره في ردهة الاستقبال واضطرابه كلما دخل أحد وتغير لون وجهه من البشاشة للتعبس، دلائل ظاهرة على أن في الأمر ما هو أعظم من الصداقة البسيطة، لا سيما وهو لم يأكل ولا تكلم إلا قليلا على المائدة.
Unknown page