Badāʾiʿ al-ṣanāʾiʿ fī tartīb al-sharāʾiʿ
بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
Publisher
مطبعة شركة المطبوعات العلمية ومطبعة الجمالية ووصَوّرتْها: دار الكتب العلمية وغيرها
Edition Number
الأولى
Publication Year
1327-1328
Publisher Location
القاهرة وبيروت
Genres
Ḥanafī Law
أَفْهَامُهُمْ مِثْلَ أَفْهَامِ أَهْلِ زَمَانِنَا لَمَا فَهِمُوا مِنْهَا سِوَى التَّسْبِيحِ الْمَذْكُورِ.
وقَوْله تَعَالَى ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى﴾ [طه: ١٣٠] قِيلَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ فَسَبِّحْ، أَيْ فَصَلِّ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ: هُوَ صَلَاةُ الصُّبْحِ، وَقَبْلَ غُرُوبِهَا هُوَ: صَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ: صَلَاةُ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَقَوْلُهُ: وَأَطْرَافَ النَّهَارِ عَلَى التَّكْرَارِ وَالْإِعَادَةِ تَأْكِيدًا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى﴾ [البقرة: ٢٣٨] ذِكْرَ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى عَلَى التَّأْكِيدِ لِدُخُولِهَا تَحْتَ اسْمِ الصَّلَوَاتِ، كَذَا هَهُنَا.
وقَوْله تَعَالَى ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ﴾ [النور: ٣٦] قِيلَ الذِّكْرُ وَالتَّسْبِيحُ هَهُنَا هُمَا الصَّلَاةُ، وَقِيلَ: الذِّكْرُ: سَائِرُ الْأَذْكَارِ، وَالتَّسْبِيحُ: الصَّلَاةُ.
وَقَوْلُهُ: بِالْغُدُوِّ: صَلَاةُ الْغَدَاةِ، وَالْآصَالِ: صَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَقِيلَ: الْآصَالِ هُوَ: صَلَاةُ الْعَصْرِ، وَيُحْتَمَلُ الْعَصْرُ وَالظُّهْرُ لِأَنَّهُمَا يُؤَدَّيَانِ فِي الْأَصِيلِ، وَهُوَ الْعَشِيُّ، وَفَرْضِيَّةُ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ عُرِفَتْ بِدَلِيلٍ آخَرَ (وَأَمَّا) السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «اُعْبُدُوا رَبَّكُمْ، وَصَلُّوا خَمْسَكُمْ، وَصُومُوا شَهْرَكُمْ، وَحُجُّوا بَيْتَ رَبِّكُمْ، وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ طَيِّبَةً بِهَا أَنْفُسُكُمْ، تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ» .
وَرُوِيَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ ﵁ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَمْسَ صَلَوَاتٍ» وَعَنْ عُبَادَةَ أَيْضًا أَنَّهُ ﵁ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْعِبَادِ فَمَنْ أَتَى بِهِنَّ وَلَمْ يُضَيِّعْ مِنْ حَقِّهِنَّ شَيْئًا اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ؛ فَإِنَّ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِنَّ؛ فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ، إنْ شَاءَ عَذَّبَهُ؛ وَإِنْ شَاءَ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ»، وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ؛ فَإِنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى فَرْضِيَّةِ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ.
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَمِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ إنَّمَا وَجَبَتْ شُكْرًا لِلنِّعَمِ مِنْهَا: نِعْمَةُ الْخِلْقَةِ؛ حَيْثُ فَضَّلَ الْجَوْهَرَ الْإِنْسِيَّ بِالتَّصْوِيرِ عَلَى أَحْسَنِ صُورَةٍ، وَأَحْسَنِ تَقْوِيمٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى ﴿وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ﴾ [غافر: ٦٤] وَقَالَ ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ [التين: ٤] حَتَّى لَا تَرَى أَحَدًا يَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ عَلَى غَيْرِ هَذَا التَّقْوِيمِ، وَالصُّورَةِ الَّتِي أُنْشِئَ عَلَيْهَا وَمِنْهَا: نِعْمَةُ سَلَّامَةِ الْجَوَارِحِ عَنْ الْآفَاتِ إذْ بِهَا يَقْدِرُ عَلَى إقَامَةِ مَصَالِحِهِ، أَعْطَاهُ اللَّهُ ذَلِكَ كُلَّهُ إنْعَامًا مَحْضًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْبِقَ مِنْهُ مَا يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَأَمَرَ بِاسْتِعْمَالِ هَذِهِ النِّعْمَةِ فِي خِدْمَةِ الْمُنْعِمِ شُكْرًا لِمَا أَنْعَمَ، إذْ شُكْرُ النِّعْمَةِ: اسْتِعْمَالُهَا فِي خِدْمَةِ الْمُنْعِمِ ثُمَّ الصَّلَاةُ تَجْمَعُ اسْتِعْمَالَ جَمِيعِ الْجَوَارِحِ الظَّاهِرَةِ مِنْ الْقِيَامِ، وَالرُّكُوعِ، وَالسُّجُودِ، وَالْقُعُودِ وَوَضْعِ الْيَدِ مَوَاضِعَهَا وَحِفْظِ الْعَيْنِ، وَكَذَا الْجَوَارِحُ الْبَاطِنَةُ مِنْ شَغْلِ الْقَلْبِ بِالنِّيَّةِ، وَإِشْعَارِهِ بِالْخَوْفِ، وَالرَّجَاءِ، وَإِحْضَارِ الذِّهْنِ، وَالْعَقْلِ بِالتَّعْظِيمِ، وَالتَّبْجِيلِ؛ لِيَكُونَ عَمَلُ كُلِّ عُضْوٍ شُكْرًا لِمَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَمِنْهَا: نِعْمَةُ الْمَفَاصِلِ اللَّيِّنَةِ، وَالْجَوَارِحِ الْمُنْقَادَةِ الَّتِي بِهَا يَقْدِرُ عَلَى اسْتِعْمَالِهَا فِي الْأَحْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ؛ مِنْ الْقِيَامِ، وَالْقُعُودِ، وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالصَّلَاةُ تَشْتَمِلُ عَلَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ فَأُمِرْنَا بِاسْتِعْمَالِ هَذِهِ النِّعَمِ الْخَاصَّةِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ فِي خِدْمَةِ الْمُنْعِمِ؛ شُكْرًا لِهَذِهِ النِّعْمَةِ، وَشُكْرُ النِّعْمَةِ فَرْضٌ عَقْلًا وَشَرْعًا وَمِنْهَا: أَنَّ الصَّلَاةَ - وَكُلَّ عِبَادَةٍ - خِدْمَةُ الرَّبِّ ﷻ، وَخِدْمَةُ الْمَوْلَى عَلَى الْعَبْدِ لَا تَكُونُ إلَّا فَرْضًا، إذْ التَّبَرُّعُ مِنْ الْعَبْدِ عَلَى مَوْلَاهُ مُحَالٌ، وَالْعَزِيمَةُ هِيَ شَغْلُ جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ بِالْعِبَادَاتِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَانْتِفَاءُ الْحَرَجِ إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِفَضْلِهِ وَكَرَمِهِ جَعَلَ لِعَبْدِهِ أَنْ يَتْرُكَ الْخِدْمَةَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ رُخْصَةً حَتَّى لَوْ شَرَعَ لَمْ يَكُنْ لَهُ التَّرْكُ؛ لِأَنَّهُ إذَا شَرَعَ فَقَدْ اخْتَارَ الْعَزِيمَةَ، وَتَرَكَ الرُّخْصَةَ؛ فَيَعُودُ حُكْمُ الْعَزِيمَةِ، يُحَقِّقُ مَا ذَكَرْنَا: أَنَّ الْعَبْدَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ إظْهَارِ سِمَةِ الْعُبُودِيَّةِ؛ لِيُخَالِفَ بِهِ مَنْ اسْتَعْصَى مَوْلَاهُ، وَأَظْهَرَ التَّرَفُّعَ عَنْ الْعِبَادَةِ، وَفِي الصَّلَاةِ إظْهَارُ سِمَةِ الْعُبُودِيَّةِ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ الْقِيَامِ بَيْنَ يَدَيْ الْمَوْلَى ﷻ، وَتَحْنِيَةِ الظَّهْرِ لَهُ، وَتَعْفِيرِ الْوَجْهِ بِالْأَرْضِ، وَالْجُثُوِّ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَالْمَدْحِ لَهُ.
وَمِنْهَا: أَنَّهَا مَانِعَةٌ لِلْمُصَلِّي عَنْ ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي؛ لِأَنَّهُ إذَا أَقَامَ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ خَاشِعًا مُتَذَلِّلًا مُسْتَشْعِرًا هَيْبَةَ الرَّبِّ ﷻ خَائِفًا تَقْصِيرَهُ فِي عِبَادَتِهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ عَصَمَهُ ذَلِكَ عَنْ اقْتِحَامِ الْمَعَاصِي وَالِامْتِنَاعُ عَنْ الْمَعْصِيَةِ فَرْضٌ وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى ﴿وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ [هود: ١١٤] وقَوْله تَعَالَى ﴿وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ [العنكبوت: ٤٥] وَمِنْهَا: أَنَّهَا جُعِلَتْ مُكَفِّرَةً لِلذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا وَالزَّلَّاتِ وَالتَّقْصِيرِ، إذْ الْعَبْدُ فِي أَوْقَاتِ
1 / 90