جلس في وسط حلقة كبيرة من أساتذة الجامعة، وراح كل يسأل ما عن له من أسئلة في سياسة العالم فيجيب مستر «و. د» إجابة الخبير، وهو ممتلئ ثقة بنفسه، وحدث ما توقعت؛ إذ سأله سائل عن الموقف في قناة السويس، فقال مغيظا: إنه يستحيل علينا أن نسحب قواتنا من هناك بغير بديل نطمئن إليه؛ فنحن لا نثق بالمصريين، وهم قوم متعبون يصعب الاتفاق معهم على حل معقول ... فتدخلت قائلا: يا سيدي، لست من رجال السياسة، ولكني مصري أولا، ورجل من رجال المنطق ثانيا، وأحب أن أناقشك في ألفاظك التي استخدمتها ... وأولها كلمة «الثقة» في قولك: إنكم لا تثقون بالمصريين، ما معناها؟ إنني أفهم معناها لو كان المصريون قد أخذوا من أرضكم أرضا، وقيل لكم «اتركوهم في أرضكم» فتجيبون بالرفض قائلين إنكم لا تثقون بهم؛ أما أن تعتدي على أرض غيرك وتقول إنني سأظل هنا لأنني لا أثق بصاحب الأرض فقول يستحيل أن يقبله عقل سليم؛ لأنه قول ينفي عن الألفاظ معانيها المألوفة ... وأما أن المصريين «متعبون» فإني أؤكد لك أن المصريين إذا أسفوا على شيء فذاك أنهم لم يكونوا «متعبين» بالدرجة الكافية لإخراجكم من بلادهم.
قال مستر «و . د» أنا لا أعرف أين يكون الفرق بين أن تساعدنا الولايات المتحدة بقواتها، وبين أن نساعدكم نحن بقواتنا! فقلت له: إن الفرق هو كالفرق بين الأرض والسماء؛ فقد اخترتم أن تساعدكم الولايات المتحدة، وأما نحن فلم نختر مساعدتكم، وفي حرية الاختيار يكون الفرق بين الحر والعبد؛ فسكت ونظر إلى قدميه، وقال: نعم، أظن أن هذه نقطة جديرة بالنظر ... ولما انفض الاجتماع جاءني مستر «و. د» يصافحني قائلا: إنني لا أعتذر إليك، لكنني أحييك وأقول لك: إنني كنت أعرف أن مصريا موجودا بين الأساتذة، فلما سئلت عن مصر أردت أن أكون صريحا، فأقول في حضوره ما كنت أقوله في غيابه؛ وأكد لي أنه ربما وصل الفريقان إلى اتفاق عما قريب.
الخميس 29 أكتوبر
لماذا أتتبع أخبار الطفل المريض الذي جلس أبوه إلى جوار المستشفى ينظر إليه خلال النافذة؟ لماذا يشتد حزني هذا الصباح إذ قرأت أن الطفل قد مات ليلة أمس بعد أربعة عشر يوما أنفقها أبوه على كرسي فوق طوار الشارع لا يعبأ بجوع أو برد؟ ... هل يمكن أن يكون مثل هذا الوالد من شعب يعبد «الدولار»؟ ألا ما أظلم الناس في أحكامهم على الناس!
نعم، لبث الوالد المزارع في المدينة إلى جوار ابنه المريض، لا يعود إلى مزرعته بل لا يكاد ينتقل عن كرسيه الذي وضعه في العراء لينظر إلى ابنه؛ لأن ابنه طلب إليه ألا يتركه، وكان متعذرا على الوالد أن يدخل معه في غرفته، فجلس على الطوار ينظر إليه خلال النافذة لا يكاد يأكل أو ينام ... ولما نشر في الصحف نبأ هذا الوالد، جاءت إليه تبرعات كثيرة منوعة؛ فتبرع متبرع بمقعد طويل مريح يستلقي عليه الوالد، وتبرع مطعم بتقديم الوجبات للوالد مدة إقامته في المدينة، وتألفت جماعة تتناوب الجلوس مع الوالد للتسرية عنه، وتبرع آخر براديو ... إلخ إلخ. هذه نزعة إنسانية فيها شبه كبير بعواطفنا الشرقية الحادة، لكنها تزيد على عواطف الشرقيين بكونها تنتقل إلى المعونة العلمية ولا تكتفي بالتعبير اللفظي الذي لا يغني من برد أو جوع .
لكن يشاء الله أن أرى إلى جانب هذه العاطفة الإنسانية النبيلة عاطفة أخرى خسيسة دنيئة، تتجلى في حكم أصدره اليوم قاض على قاتل أبيض قتل زنجيا؛ حكم القاضي على القاتل (الأبيض) بالسجن سنتين؛ لأنه قتل ذلك الزنجي، ولست أريد أن أعلق على عدم التناسب بين العقوبة والجريمة؛ فقد لا يكون ذلك من شأن رجل لم يدرس القانون، ولم يدرس تفصيلات الموضوع، لكن الذي يدعو إلى العجب الشديد هو «حيثيات» الحكم كما نشرت في صحيفة اليوم؛ إذ جاء في الحيثيات ما تأتي ترجمته بالحرف الواحد:
إنني أحكم على فلان بالسجن سنتين ليتعلم درسا، وهو ألا يخالط الزنوج، لقد خلقنا الله مختلفين، فلماذا نسلك كما لو لم يكن بين الناس اختلاف؟ لقد كان فلان يستطيع أن يجد من أمثاله البيض من يقضي معهم وقت الفراغ والتنزه ...
ومعنى ذلك أن القاضي لا يعاقب المجرم القاتل على جريمته، بل يعاقبه على شيء آخر وهو أنه اختلط مع زنجي، فهذا عند القاضي أخطر من القتل! ترى بماذا كان يحكم هذا القاضي نفسه على زنجي قتل رجلا أبيض؟!
الجمعة 30 أكتوبر
ذهبت إلى نادي الأساتذة في الفترة التي تقع بين المحاضرتين، وأخرج الدكتور «ك» أستاذ تاريخ القانون من جيبه قصاصة، وقرأها للحاضرين، وإذا هي الحكم الذي أصدره القاضي على القاتل الأبيض الذي قتل زنجيا فحكم القاضي عليه بالسجن عامين، وقال في تبرير الحكم: إنه قد قضى بسجنه ليعلمه درسا ألا يختلط بعد ذلك بزنجي.
Unknown page