وقد كان يستحيل ألا يجيء ذكر مصر في الحديث؛ فسألني القاضي «ه» السؤال الذي يستحيل ألا يسأله كل إنسان هنا، كما يستحيل ألا يأخذني الغضب والانفعال كلما أجبته، فما استطعت مرة واحدة أن أجيب عنه وأنا هادئ الأعصاب، وهو: إنكم تطلبون من الإنجليز أن يتركوا قناة السويس، فهل إذا تركوها تستطيعون الدفاع عن أنفسكم؟ فأجيب دائما بقولي: لأن نستطيع أو لا نستطيع الدفاع عن أنفسنا فإنما ذلك من شأننا وحدنا، وليس من حق مخلوق على ظهر الأرض أن يسألنا سؤالا كهذا؛ فضلا عن أننا إذا دافعنا عن أنفسنا فضد الإنجليز، وإذا خفنا على أرضنا فمن الإنجليز ، ولا يعقل أن نستريح لدفاع الإنجليز وهم عدونا الأول؛ الإنجليز عدو قائم فعلا، والروس عدو محتمل الوقوع، ومن البلاهة أن تستبقي عدوا حقيقيا اتقاء لعدو محتمل.
فقال القاضي «ه»: إنه يصارحني بشعوره، وهو أنه كلما قرأ عن رغبة المصريين في استرداد قناة السويس، كاد الدمع يطفر من عينيه؛ لأن الإنجليز قد بنوها بمالهم وحرسوها بمالهم، فكيف يجيء المصريون الآن فيقولون: نريد القناة؟ فلما أفهمته أن المال مالنا حتى وإن بقي بعضه دينا علينا، وأن الأرض أرضنا، وأن السواعد المصرية هي التي حفرت القناة في أرض مصرية، قال القاضي إما جادا أو متهكما: هذا كشف جديد لي في السياسة أن أعلم من هذا السيد أن القناة لم ينفق عليها الإنجليز.
وجاء في حديثهم ذكر التفرقة اللونية بين البيض والزنوج، وقد جعلت خطتي أن ألزم الصمت كلما ذكر هذا الموضوع؛ فهو موضوع حساس في ولايات الجنوب، بل هو شغلهم الشاغل ومصيبتهم الكبرى! إن البيض والزنوج يكادون يتساوون عددا في ولايات الجنوب؛ والتفرقة بين اللونين في هذه الولايات تفرقة تامة في كل شيء كأنهما خطان متوازيان لا يلتقيان مهما امتدا! أحياء لسكنى البيض وأخرى لسكنى الزنوج، مدارس وجامعات للبيض وأخرى للزنوج، مطاعم للبيض وأخرى للزنوج، في السيارات العامة خصصت المقاعد الأمامية للبيض والخلفية للزنوج، بل للبيض باب في السيارة وللزنوج باب آخر، للبيض باب في محطة السكة الحديدية واستراحة خاصة، وللزنوج باب آخر واستراحة أخرى، للبيض عربات في القطار وللزنوج غيرها، إذا كان البيض والزنوج يعملون معا في مصنع مثلا، فللبيض صنابير ماء وللزنوج أخرى، وكارثة الكوارث في نظري أن يكون للبيض كنائس خاصة بهم وللزنوج كنائسهم، مع أن الجميع قد يكونون مسيحيين تابعين لمذهب واحد!
التفرقة اللونية بين السود والبيض في ولايات الجنوب هي مركب النقص الذي لا يجوز لغريب مثلي أن يمسه بحديثه؛ لأن البيض هناك - كأي ناس في أنحاء العالم - يعلمون أن مثل الإنسانية الأعلى هو ألا يكون فرق بين إنسان وإنسان، لكن العقيدة شيء وممارستها شيء آخر؛ فمن العسير جدا على نفوسهم أن يمتزجوا مع من كانوا حتى أمس القريب عبيدهم، اشتروهم بمالهم ليفلحوا لهم أرضهم، فلا يمكن بين يوم وليلة أن تقول للسيد إنك أنت وعبدك الذي اشتريته بمالك على قدم المساواة لا فرق بينك وبينه، إنهم يقولون: إن المساواة شيء والامتزاج شيء آخر؛ فللسود علينا أن لهم كل الفرص التي للبيض، لهم علينا أن يكون لهم من المدارس والمستشفيات وكل وسائل الحياة الحرة الكريمة ما للبيض سواء بسواء، لكن هل هذه المساواة في المنافع تقتضي حتما أن نمتزج معا ونعيش معا؟ لماذا تنشد سعادة السود ولا تبالي بسعادة البيض؟ فإن كان الزنوج يسعدهم أن يمتزجوا مع البيض، فالبيض يسعدهم ألا يمتزجوا مع الزنوج ... وهكذا وهكذا، وباختصار: إن هذه المشكلة عندهم هي الداء الذي ينغص عليهم العيش ولا يعرفون له دواء؛ فبالعقل يرون شيئا وبالشعور يريدون شيئا آخر، وسيظل الإنسان إلى أبد الدهر نهبا بين عقله من ناحية وشعوره من ناحية أخرى.
قلت إنهم - القاضي «ه» ومستر «ه» والدكتور «ت» - راحوا يتحدثون عن الزنوج، فلزمت الصمت كعادتي إذا ما دار الحديث عن الزنوج؛ لأنني بطبيعة الحال لا أوافق أن يقوم بين اللونين تفرقة كائنة ما كانت، وفي الوقت نفسه لا ينبغي أن أكون ضيفا يلدغ مضيفه بالنقد، فضلا عن أنني أحاول أن أشعر بشعور هؤلاء وهؤلاء ... قال الدكتور «ت» بمناسبة ضجة في النقد الأدبي قامت حول كتاب أخرجه كاتب زنجي: إننا نحتفل لإنتاج الزنوج أكثر جدا مما نحتفل لمثله من إنتاج البيض، فلو برع لاعب زنجي في الكرة وبرع إلى جانبه لاعب أبيض، ظفر الزنجي بمعظم التمجيد، وكذلك قل في ميادين العلم والأدب والسياسة؛ ثم قال متهكما: وددت أن أكون زنجيا إن كان هذا هو حظ الزنوج! وردد النغمة نفسها مستر «ه» والقاضي «ه».
وجاء حديث الزنوج مرة أخرى ونحن في السيارة عائدون، فقال الدكتور «ت»: ليس الاختلاف بين البيض والزنوج مقصورا على البيئة والتربية، بل هناك اختلاف أصيل موروث؛ ولهذا فهما جنسان مختلفان في كل شيء ... حتى نوع الجرائم التي يرتكبها أفراد هذا الجنس أو ذاك تختلف؛ فالجريمة التي يرتكبها الزنجي تختلف في هدفها وفي وسيلتها عن الجريمة التي يرتكبها الأبيض؛ الزنجي يقتل مدفوعا بالغضب والغيظ، وأما الأبيض فقد يقتل لغير هذا، هو يدبر الجريمة قبل ارتكابها، على حين أن الزنجي يستثار لها فيندفع إلى ارتكابها فورا ... ومضى يقول: لما كنت أستاذا في جامعة شيكاجو كان البيض هناك يقترفون جرائم عجيبة، فمثلا حدث مرة أن أمسك بعضهم برجلين عنوة وخصوهما، لا لشيء سوى التفكه الأثيم، أما الزنجي فيستحيل أن يقترف جريمة كهذه؛ الأبيض قد يخطف الطفل من أبويه ويقتله ويطلب من أبويه فدية (كانت أمريكا عندئذ ترتج ارتجاجا لحادث خطف طفل من أبويه الثريين وقتله الخاطف وأخفى قتله، ثم طلب من أبويه ستمائة ألف دولار فدية، وأخذ الفدية، وبالطبع لم يعد والدا الطفل يسمعان شيئا)، وأما الزنجي فليست هذه جريمته، لكن حرك الزنجي يقتل ... وفي هذا لا بد من الاعتراف بأن الزنجي أشرف وأنبل وأشجع؛ إني أقول ذلك تقريرا للحق، مع أني لست من محبي الزنوج، ولا أحب أن يقال عني أبدا أنني أعطف على الزنوج؛ فإنني أعتقد أن وجود الزنوج في بلادنا هو نكبتنا الكبرى.
واستطرد الدكتور «ت» في حديثه عن الجرائم، فقال: إن آخر إحصاء قد دل على أن المجرمين الشباب معظمهم من المتعلمين، ثم سأل في حماسة: أليس ذلك لأن طريقة التربية عندنا خطأ في خطأ؟ إنني الآن أكتب كتابا في هذا، وأضرب ضربات قاسية من النقد لنظامنا التعليمي كله؛ إذ لم تعد الشخصية وتكوينها والأخلاق وبناؤها هي الهدف الهام في تعليمنا ...
وانتهزت فرصة حديثنا في المجلات الأدبية، فسألت الدكتور «ت»: أي المجلات الأمريكية في رأيك أعلاها ثقافة؟ فما كان من الدكتور «ت» إلا أن راح يندد بموقف الثقافة في أمريكا قائلا: إنه حتى أرقى مجلاتنا ثقافة قد أصبح يتودد إلى القراء الأوساط في ثقافتهم، فيستميلهم بقصص كلها قائم على الغرائز الجنسية ... وسألته عن أجور النشر في المجلات، فما كان أشد دهشتي حين علمت أن المقالة الواحدة أو القصة الواحدة في مجلة مثل «بوست» أو «لايف» أو «نيويوركر» قد يبلغ أجرها ثلاثة آلاف دولار؛ أي أكثر من ألف جنيه مصري! ... لكن إلى جانب ذلك عرفت أن الكثرة الغالبة من المجلات العلمية والأدبية التي تعلو بمستواها فيقل مدى توزيعها لا تعطي الكاتب شيئا، وحسبه فخرا أن المجلة قد نشرت له ما كتب!
الإثنين 26 أكتوبر
عقدت اليوم ظهرا في نادي الأساتذة جلسة لمناقشة السياسة الدولية مع زائر سياسي دعته الجامعة، وهو مستر «و. د» وهو عضو في البرلمان الإنجليزي من حزب المحافظين، ومراسل لجريدة الديلي تلجراف اللندنية، عمره حول الأربعين وهو متكلم من الطراز الأول، رجحت أن يجيء ذكر مصر فذهبت إلى الاجتماع مصمما أن أتدخل في المناقشة إذا دعا الأمر إلى التدخل.
Unknown page