91

Awraqi

أوراقي … حياتي (الجزء الأول)

Genres

أمي لم تضرب الخادمة سعدية بقسوة نعمات، تنفس أمي عن طاقتها في السجادة العجمية بالمضرب الخيزران، في تخريط الملوخية بالمخرطة، فرم اللحم في المفرمة، تسعة من الأطفال وأبوهم توكلهم طول النهار، يد زوجها تربت عليها في الليل، تدفئها في ليالي البرد.

طنط نعمات عاشت وماتت، لم تحمل ولم تلد ولم يكفلها أحد، لم تملك في الحياة إلا جهاز عرسها، كراسي الصالون المذهب، السرير النحاسي الأصفر، الدولاب الكبير، الشيفونيرة، ترابيزة السفرة، البوفيه، «الدينوسوار» الدولاب الزجاجي للصيني والفضيات واثنتين من الكومدينو، التسريحة أو التواليت، قطع الأثاث الشبيه بأثاث أمي.

لم تحصل طنط نعمات على شيء من معاش أبيها، القانون يحرم المطلقات من معاش الأب، بعد الطلاق نفقة عام واحد من زوجها، أصبحت طنط نعمات بلا مورد، تطوف على بيوت الأهل في موعد الأكل، عمتي رقية في كفر طحلة مثل طنط نعمات ، الفقر في القرية أقل قسوة من المدينة، القلوب في المدينة أشد قسوة من القرية، عاشت عمتي رقية وماتت أحسن حالا من طنط نعمات.

لطنط فهيمة جزء من معاش أبيها، مع راتبها من المدرسة، تنتمي إلى طبقة أعلى من أختها نعمات، ترمقها بطرف أنفها، طنط فهيمة رفضت الزواج بعقد رسمي، لم تشأ أن تفقد معاشها من أبيها؛ الابنة المتزوجة مثل المطلقة، تحرم في القانون من معاش الأب. تزوجت طنط فهيمة بعقد «عرفي»، العقد العرفي لا يعتبر عقد زواج رسمي، احتفظت طنط فهيمة بمعاش أبيها حتى ماتت، العقد العرفي غير محترم مع أنه شرعي، الناس لا تحترم إلا العقود الرسمية.

صورة شلبية محفورة في ذهني، تمشي وراء طنط فهيمة حاملة صرة من الدمور فيها ملابسها، إلى أين تأخذها؟ تنقذها من بين يدي طنط نعمات، تنقذ سمعة العائلة الكريمة؟ لم أعرف مصير شلبية، طردتها طنط فهيمة إلى أبيها ليقتلها؟ ربما تهيم على وجهها في الشوارع تتسول طعامها؟ تبيع جسدها في سوق البغاء إذا اكتسى جسدها باللحم؟ لم أعرف مصير الطفل في بطنها، القانون يحرم الطفل من الانتساب للأم، التبني محرم في الإسلام، آية في القرآن تقول:

ادعوهم لآبائهم ، إذا كان الأب مجهولا يصبح الطفل «غير شرعي»، يتحمل عن أبيه وزر الإثم، ضحية أخرى بريئة مثل خروف العيد، لماذا لا يكون الأب المذنب هو الأب غير الشرعي؟!

كيف استطاعت طنط فهيمة أن تطرد شلبية من البيت؟ طنط نعمات اعتبرت الطرد أشد قسوة من الضرب، في أعماقها الأمومة المكبوتة، الحنان الراقد في القاع، ترمق شلبية بعينين مملوءتين بالدموع، تبتلع الدموع قبل أن يراها أحد، تسقط دمعة واحدة تمسحها بمنديلها الحريري الأبيض.

طنط نعمات تخجل من دموعها، تلطم خديها بيديها، والدموع تظل حبيسة، سمات العائلات المنحدرة من السلالات الراقية، عماتي الفلاحات الفقيرات يبكين بالدموع دون خجل، يفرحن، يزغردن بصوت عال دون حرج، يغمروننا بالقبلات بالعناق عند الاستقبال، عند الوداع تنهمر دموعهن، في المأتم يطلقن صراخا يشبه الزغاريد، يتجمعن في الحقل في الدار في السوق، يواسين بعضهن بعضا في الأحزان والمصائب، البيت بجوار البيت، النافذة تطل على النافذة والجارة، تتجمع الجارات أمام الدار، يجلسن على عتبة الباب، كل من تمر في الزقاق تجلس معهن، الواحدة منهن لا تشعر بالوحدة، لا عزلة، لا جوع، تمد يدها إلى أي حقل وتأخذ كوز ذرة.

طنط نعمات تعيش في الوحدة، البيت الكبير تحوطه حديقة واسعة وسور حديد، نوافذ الجيران بعيدة، أتجلس على عتبة الباب كما تفعل ستي الحاجة أو عمتي رقية؟ أتمد يدها لتأخذ رغيفا من أي مخبز كأنما الحقل؟

طنط فهيمة مثل طنط نعمات، تلطم خديها وتظل دموعها محبوسة، في الليل أصحو على جسدها ينتفض يرج السرير، جفونها مغلقة، وصوتها يخرج متحشرجا من بين فكين يصطكان: «أستغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم!» ينقطع صوتها، تكف أنفاسها عن إصدار أي صوت، ماتت؟! تشهق شهقة واحدة متحشرجة: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم!» ينتفض جسدها انتفاضة واحدة، كالدجاجة المذبوحة، تهدأ، تعود أنفاسها عميقة منتظمة بالشخير الخافت.

Unknown page