كان هناك بعض دوارات قليلة، أربعة أو خمسة، يملكها أصحاب العزب الكبيرة، لهم أراضي وحقول تمتد مع امتداد الجسر حتى طحلة والرملة أو «بنها» عاصمة القليوبية.
العمدة كان صاحب السلطة بلا أملاك كبيرة، له أعوان من الرجال، يرأسهم شيخ الخفر.
مصر كانت تعيش عصر الإقطاع، كبار الملاك في القرية يملكون 98٪ من الأراضي، بقية الأرض 2٪ يملكها 80٪ من الفلاحين (لا تزيد ملكية الواحد منهم على ثلاثة أفدنة)، بقية أهل القرية 20٪ لا يملكون شيئا على الإطلاق، يعملون في أراضي تحت اسم «الأجراء»، بعضهم لا يشتغل إلا في موسم الحصاد أو جمع القطن.
كانت «ستي الحاجة» تنتمي إلى طبقة صغار الفلاحين ... تمتلك قطعة من الأرض، ثلاثة أفدنة، ورثتها عن أمها الغزاوية، ثلاثة ملايين من الفلاحين مثل ستي الحاجة، إنهم أحسن حالا من الأجراء؛ لم يكن أطفالهم يموتون من الجوع، يموتون من الإسهال أو النزلات المعوية فقط، طعامهم ليس الخبز الحاف بدون غموس، إنهم يغمسون بالجبنة الحادقة مع مخلل الخيار أو الليمون الأخضر الصغير.
سعر الأرض يرتفع على الدوام ، دخل الفلاح ينخفض العام بعد العام، المضاربات في بورصة القطن لصالح الإنجليز وكبار الملاك، المضاربات بالأراضي الزراعية يربح منها الإقطاعيون عن طريق رفع الإيجارات.
اشتغلت ستي الحاجة في أرضها عشرين عاما متصلة دون أن تدخر شيئا إلا مصاريف أبي ليتعلم، كان يمكن أن تشتري فدانا من الأرض. «الأرض تزيد فدانا أو تنقص فدانا، ولا حاجة تتغير في عيشة الفلاحين المرة يا بنت ابني، لكن التعليم للولد حلو، يخليه يتوظف في الحكومة، ويبقى راجل ملو هدومه.»
كانت امرأة لا تعرف القراءة، لم تقرأ في حياتها كتابا واحدا، لم تقرأ القرآن كتاب الله، تقول للعمدة: أنا عارفة ربنا أكثر منك يا عمدة! ربنا هو العدل، عرفوه بالعقل!
أخذتني ستي الحاجة معها إلى العمدة ذات يوم، كنت في السابعة من عمري وهي في الخمسين، قوية الجسم، فارعة القوام، العمدة إلى جوارها قصير سمين مترهل، بشرته بيضاء لم تعرف الشمس، مد يده وصافحني، بضة ناعمة صغيرة بالنسبة ليد جدتي الكبيرة الخشنة، لم تلمس أنامله الفأس ... بين أصابعه سبحة صفراء حباتها تلمع، في يده الأخرى مصحف حروفه منقوشة بماء الذهب.
كان جالسا فوق مقعد له مسند عال، يرتدي قفطانا أسود اللون، حوافه مطرزة بخيوط ذهبية، كانت ستي الحاجة واقفة أمامه داخل جلبابها الأسود المترب، من خلفها الفلاحون والفلاحات وجوههم ضامرة ممصوصة حتى آخر قطرة، بشرتهم مشققة كالأرض «البور».
لم يكن وجه ستي الحاجة ضامرا، يدها كانت مثل أياديهم، مشققة كبيرة الحجم، لكنها مرفوعة تشوح بها في وجه العمدة: الكلمة شرف يا عمدة! فين كلمتك؟
Unknown page