كان أبي يؤمن بالله والوطن، ولكن أحمد حلمي كان يؤمن بالوطن فقط. في أول حديث لنا عن الدين سألني: أتؤمنين بالله يا نوال؟ قلت: طبعا ... مرت لحظة صمت طويلة، كنا نجلس في حديقة الشاي، مكان هادئ يطل على بحيرة صغيرة، يعوم فيها البط داخل حديقة الحيوان بالجيزة. كنت أرتدي بلوزة وردية جديدة، أرى وجهي منعكسا فوق مياه البحيرة، عيناي يكسوهما بريق، الدقات تحت ضلوعي محسوسة، أنفاسي تتعاقب بسرعة لم أتعودها، أحاول أن أتظاهر بالهدوء وأنشغل بمراقبة البط يفرد أجنحته في الماء ، يتطاير فوق ريشة الرذاذ مثل ذرات من اللؤلؤ تلمع تحت أشعة الشمس. - وأنت يا أحمد هل تؤمن بالله؟ - لأ يا نوال.
الصدمة الأولى في الحب، تجمدت الدقات تحت ضلوعي، توقفت الأنفاس وقدرتي على النطق، لم أعد أرى البحيرة ولا البط، غامت عيناي، مرت سحابة حجبت الشمس، تصورت أن الله سمع كلمة «لأ» وأراد أن يدمر الأرض والشمس وكل ما في الكون.
فتحت عيني ورأيت أحمد جالسا أمامي، كأنه كائن ميت لا أقوى على النظر إليه. - آسف يا نوال إذا كنت صدمتك، أنا دائم التفكير في فكرة نشوء الكون، أنا غير مقتنع بنظرية الخلق في الكتب السماوية، أنا شرحت جسم الإنسان في المشرحة، وقريت كتاب داروين «أصل الأنواع»، الكتاب ده بمثابة المسمار في عرش الإمبراطورية البريطانية؛ لأنه هدم أهم أركانها وهو الكتاب المقدس، أو أهم ما في الكتاب المقدس وهي نظرية الخلق ونشوء الكون.
صمت أحمد قليلا، أحسست الجفاف في حلقي، شيء يؤلمني تحت الضلوع، أنفاسي عادت بطيئة ودقات القلب لم تعد هناك، أحس الدم يمشي في صدري بطيئا بارد الملمس، كأنما جرح في صدري مفتوح منذ الطفولة، جرح لم يلتئم منذ ولدت ولم أسمع الزغاريد، لم أشهد في العيون إلا الحزن والصمت، أصابع غليظة سمراء كالمسامير الصدئة تحاول خنقي تحت الماء، وأنا أرفس بقدمي وذراعي وأطفو، صوت يخرق أذني مثل السيخ المحمي في النار، بنت وليست ولدا! العوض على الله! كلمة «الله» تنفذ إلى أذني مثل المسمار الحديدي الذائب في النار، الله يفضل الرجال على النساء، الله صاحب الجلالة مذكر وليس مؤنثا، في القرآن الله لا يلد ولا يولد، وفي التوراة - الكتاب الأول المقدس - الله لا يلد البنات، أبناء الله تزوجوا بنات الناس وأنجبوا البشرية. - قريتي أصل الأنواع يا نوال؟ - لأ. - لازم تقريه يا نوال، وكمان كتاب كارل ماركس «رأس المال»، في سنة 1882، السنة نفسها اللي احتلت فيها مصر مات داروين، عملوا له مقبرة عظيمة في وست مينيستر أبي، كان كارل ماركس في لندن من سنة 1849، مات في لندن بعد داروين بسنة واحدة، قبل ما يموت أهدى كتابه «رأس المال» لداروين، لكن داروين كان مؤمنا بالمسيح والإمبراطورية البريطانية، عشان كده رفض هدية كارل ماركس، رفض أن يستلم كتاب «رأس المال»، كان خايف من الكنيسة والحكومة في لندن، قريتي «رأس المال» يا نوال؟ - لأ. - ده كتاب مهم يا نوال، أنا مش ماركسي ولا شيوعي لكن الكتاب ده مهم لازم تقريه.
دار هذا الحوار بيني وبين أحمد قبل زواجنا وقبل سفره إلى الحرب مع الفدائيين، عدت إلى البيت سيرا من حديقة الحيوان إلى بيت أبي في أول شارع الهرم، قدماي تسيران وحدهما في الطريق وعقلي شارد. كادت سيارة تصدمني وأنا أجتاز الشارع لأهبط تحت نفق القطار، كأنما أسير في نفق مظلم لا أعرف الحقيقة من الخيال. بدا كل شيء من حولي يتخبط في الوهم، الحب والإيمان بالله، والكتاب المقدس ونظرية الخلق ونشوء الكون ... أتطلع إلى السماء كأنما أتوقع أحدا يرد، أتطلع إلى أبي في البيت أود أن أسأله لكن صوتي لا يخرج، لم تعد كلمة «الله» تخرج من فمي عادية، أصبحت مشحونة بالكهرباء أو الديناميت، أخشى لو نطقت بها أن ينفجر المكبوت في أعماقي منذ الطفولة، أن ينكشف السبب الحقيقي وراء إيماني، وهو الخوف من أبي أو الخوف من الله ونار جهنم الحمراء بعد الموت.
بعد أن سافر أحمد إلى الحرب في القنال بدا الكون خاويا بلا معنى، بلا إله ولا شيطان، ولا أي شيء، كلية الطب بدت بلا معنى وبلا هدف، الطلبة يهرولون إلى المشرحة والمستشفى كالأشباح في عالم من الوهم، الأرواح الخفية والجان وكل ما ورد في القرآن، أرى أبي راكعا يصلي فأشفق عليه من الوهم، أكاد أقول له لا توجد جنة بعد الموت ولا جدوى من الركوع والصلاة، أضع يدي فوق فمي أحبس الكلمات في حلقي.
حزمت حقيبتي وقررت السفر إلى القنال، تطوعت مع بعض الممرضات في المستشفى للسفر إلى الجبهة، تدربت على الإسعافات الأولية. كانت لي صديقة بين الممرضات اسمها وديدة، خطيبها سافر مع الفدائيين إلى القنال، أرادت أن تراه ثم تعود، أنا أيضا أردت أن أرى أحمد ثم أعود، لم يكن الطريق إلى الإسماعيلية طويلا، ساعتين بالسيارة، ويمكن أن أعود بالسيارة في اليوم نفسه، أو في اليوم التالي.
ركبت مع وديدة السيارة اللوري، جوار السائق، خلفنا جلس أحد الممرضين وسط زجاجات الدم والبلازما، أفقت على صوت السائق يقول: فاضل كيلو واحد على الإسماعيلية، قلبي يخفق تحت الضلوع، لم يعد إلا كيلو واحد وألتقي أحمد، أحوط صدري بذراعي، أكتم الخفقات عن السائق بجواري، أخشى أن يكتشف السبب الحقيقي وراء سفري إلى الإسماعيلية، لقد أعلنت له أنني متطوعة مع الممرضات من أجل الوطن.
خرجنا من القاهرة في الليل، وديدة ركنت رأسها فوق حافة النافذة، شردت عيناها في السماء، صوتها المبحوح يدندن بأغنية أم كلثوم «هو صحيح الهوى غلاب ماعرفش أنا»، يذكرني صوتها بزميلتي فاطمة في مدرسة حلوان الداخلية. فتحت حقيبتي وأخرجت الساندويتش، رغيف فينو طويل داخله جبن رومي وبيضة مسلوقة بالملح والفلفل، قسمت الرغيف ثلاثة أقسام ناولت السائق جزءا، وديدة جزءا، وأخذت الجزء الأخير.
كنت جائعة، رائحة الخبز والجبن والفلفل تصيبني بانتعاش مفاجئ، أعود طفلة تأكل بشهية، أتذكر أمي حين كانت تجهز الساندويتش لآخذه إلى المدرسة وأنا طفلة في السابعة من العمر.
Unknown page