263

Awraqi

أوراقي … حياتي (الجزء الأول)

Genres

وفي عام 1981 دخلت أنا السجن وبقي شريف خارجه، وعشنا المطاردة عدة سنوات حتى 1988، حين دخل اسمي قائمة الموت. وفي عام 1991 وجهت إلينا الحكومة ضربة كبيرة بسبب وقوفنا ضد حرب الخليج. وفي عام 1992 كان لا بد من السفر خارج الوطن حماية لأرواحنا، ثم عدنا إلى الوطن بعد ستة أعوام في المنفى، وها نحن نعيش المنفى داخل الوطن، في تلك الشقة الصغيرة، تكاد تشبه العلبة من الأسمنت المعلقة بين السماء والأرض في الدور السادس والعشرين في حي شبرا القديم، لولا هذه الشرفة العالية المطلة على النيل والفضاء الواسع، لولا انهماكنا في الكتابة الإبداعية، ولولا زيارات الأصدقاء القدامى والصديقات الجديدات من الشابات والشباب ... ربما أصابنا الاختناق أو الموت بالذبحة الصدرية أو التسمم الغذائي.

في هذه الشرفة نجلس في الليل، شبورة سوداء ترقد تحتها مدينة القاهرة، المآذن وقباب الكنائس تغرق في الخضم الأسود على حد سواء، أصوات صاخبة ترتفع من خلال مكبرات الصوت، تراتيل دينية بصوت ذكوري خشن، وتراتيل غنائية بأصوات المطربات وراقصات يطرقعن بالصاجات، رائحة الهامبرجر الأمريكي تتصاعد من قمامة سينسبري البريطاني فوق الشاشة، وفي الإذاعات تتكرر الصورة الواحدة والصوت الواحد للحاكم الإله، من حوله رجال ونساء البلاط.

قلبي ينوء بالحزن على هذا الوطن، ستون مليونا من البشر يعيش نصفهم تحت خط الفقر، أغلبهم نساء معذبات داخل البيوت، يعانين إلى جانب الفقر الاغتصاب الجنسي داخل الزواج أو خارجه، يقهرهن رجال العائلة بمثل ما يقهرهن رجال الدولة.

منذ ولدت في بداية الثلاثينيات وأنا غاضبة ثائرة ضد هذا الظلم منذ الطفولة أحلم بعالم آخر، أبحث عن شيء لا أعرف ماذا أسميه، تعجز اللغة الطبقية الأبوية عن التعبير عنه، ليس هو الحب الذي يتغنى به هذا العالم المزدوج الوجه، وليس هو الإله الذي يعبده الرجال ويضعهم في درجة أعلى من النساء.

شيء أبحث عنه لا أجده في هذا الكون، قد يجذبني البريق في عيني الإنسان أو الإنسانية، أنتبه كالعشب الحساس العاري، أبحث تحت البريق عن الشيء العميق، أنخدع وأخدع نفسي المرة وراء المرة، ثم أفيق بعد عام أو عامين أو عشرين عاما، أكتشف جزءا من الحقيقة التي تتخفى مثل جبل الثلج، يتراكم الحزن في قلبي العام وراء العام، لا شيء إلا الحزن حين أواجه الحقيقة في هذا العالم.

مفتوحة العينين أحملق في وجه الموت، أحملق في وجه الزيف، في وجه فرعون الإله حاكم البلاد، أثبت عيني وهو جالس فوق المنصة العالية، أشير إليه بإصبعي وأقول له: أنت أول من يحاسب عن الظلم والفساد والفقر في هذا البلد وليس نائبك أو مندوبك؛ لأنك الوحيد الذي تقبض في يدك على السلطة المطلقة، ومن يملك السلطة هو المسئول.

لكنهم يفصلون بين السلطة والمسئولية، كلما ازدادت السلطة اكتسب الحاكم حصانة أكبر، مثل الإله يصبح مسئولا عن الخير فقط، أما الشر فهناك كبش الفداء أو الضحية، يسمونه الشيطان أو حواء الآثمة، أي النساء الفقيرات المغتصبات جسديا واقتصاديا تحت سطوة القيم الطبقية الأبوية.

في المرآة أرى سحابة الحزن تكاد تخفي البريق القديم في عيني، أجلس في الشرفة العالية أطل على المدينة، القاهرة لأهلها المقهورة بحكامها، أقاوم الحزن بالكتابة، أحب ملمس القلم بين أصابعي، الأوراق متراكمة فوق مكتبي بخط يدي، تطل من داخل الغلاف البرتقالي مكتوب عليه: أوراقي حياتي، الجزء الثالث. مفكرتي الصغيرة غلافها أزرق تشبه الكشكول في طفولتي عام 1942، مكتوب عليها 2000. ثمانية وأربعون عاما مضت منذ بدأت أكتب في مفكرتي السرية، لم يعد عندي أسرار، كتبتها كلها ونشرتها على الناس، تحولت من ذكريات مكبوتة تبعث على الخزي والعار إلى قيمة علمية وأدبية يدرسها الطلاب والطالبات في جامعات العالم، ما عدا الجامعة المصرية.

هناك مثل شائع يقول: «لا كرامة لنبي وسط أهله.» أحيانا أدرك أن الحظ يحالفني؛ لأنني أعيش ولم يغتلني أحد بعد، أفرد ذراعي عن آخرهما وآخذ شهيقا عميقا، أشعر بحرية الخروج من دائرة المألوف، أتذكر أبي منذ اثنين وأربعين عاما حين ترك الحكومة المصرية، فرد ذراعيه عن آخرهما وقال: أخيرا تحررت بعد ثلاثة وثلاثين عاما عشتها رهين المحبسين، الوظيفة الحكومية وسرير الزوجية!

ضحك شريف وقال: أبي أيضا مثل أبيك تحرر من الحكومة بعد الإحالة إلى المعاش. لكنه تحرر من سرير الزوجية قبل ذلك يا شريف كان أبي مخلصا لأمي، لم يكن يفصل بين الإخلاص للزوجة والإخلاص للوطن. قال شريف: أنت مثالية يا نوال، كل شيء نسبي في الحياة، لا يوجد إخلاص مائة في المائة. قلت: كم تستخدم نظرية النسبية يا شريف لتبرير كثير من الموبقات في العالم! ضحك شريف وقال: وكم من موبقات أكثر تحدث تحت اسم المثالية والمطلق.

Unknown page