يحدث هذا في مصر وفي بلاد العالم الأخرى، تتكرر المظاهرات الشعبية في عواصم الغرب والشرق، والشمال والجنوب، ضد الآلهة في واشنطن ولندن وباريس ودمشق والرياض والقاهرة والخرطوم وبغداد وتونس والرباط وموسكو وطوكيو وبكين وغيرها وغيرها، يتجمع الآلهة في اجتماعات القمة هنا وهناك تحت اسم العولمة والديموقراطية وحقوق الإنسان وحقوق النساء، ويتجمع الشياطين المقهورون والمقهورات في مظاهرات في الشوارع تحت اسم العولمة من أسفل، يضربون الآلهة بالحجارة والطوب والزلط، يرد الآلهة بالقنابل النووية والمسيلة للدموع.
قرأنا عن المظاهرات في سياتل في خريف 1999، ومظاهرات أخرى تتكرر، آخرها المظاهرات في جنوب فرنسا في أول يوليو 2000، تجمع الرجال والنساء والشباب والأطفال وضربوا معاقل الآلهة، منهم «ماكدونالد» الإله القوي الذي يلد نفسه في جميع بلاد العالم، و«سينسبري» الإله الجديد المنافس للآلهة القدامى، وفي شارعنا الذي يسمونه شارع معهد ناصر فتح «سينسبري» محلا ضخما، أطلق عليه اسم «سينسبري أغاخان»، ليست منطقة أغاخان الثرية المجاورة لنا، ولكن منطقة حي شبرا القديم الفقير. جاء هذا السوبر ماركت البريطاني الجديد ليضرب محلات البقالة الصغيرة والمنتجات المحلية المصرية، وليملأ شارعنا بالصناديق الفارغة والقمامة والذباب دون أن تحاسبه وزارة البيئة المصرية، رغم أنها تحاسب المحلات المصرية الفقيرة حسابا عسيرا، وقد تأمر بإغلاقها إن لم تتخلص من قمامتها أو ما يسمونها النفايات. حاولنا أنا وشريف مع سكان الحي الفقير أن نعترض على النفايات المتراكمة في شارعنا، التي يلقي بها السوبر ماركت اللامع البلاط «سينسبري» إلى عرض الشارع الذي نعيش فيه، ذهبت محاولاتنا حتى اليوم عرض الرياح، لم يتحرك مسئول واحد في الحكومة المصرية لحماية حي شبرا الفقير من نفايات الإله البريطاني الجديد.
يدور الصراع غير المتكافئ بين الآلهة الكبار القليلين المالكين للإعلام والسلاح والمال، وبين الملايين من الشعوب الفقيرة المعدمة من النساء والرجال، يلعب الإعلام دورا أمضى من السلاح العسكري. بالأمس قرأت في بعض الصحف المصرية تشويها للمظاهرات الشعبية الأخيرة في جنوب فرنسا، كتب أحد رؤساء تحرير صحيفة حكومية يقول في 1 يوليو 2000 التالي: شهدت فرنسا مظاهرات شعبية مؤيدة للشذوذ الجنسي ضمن الهتافات ضد العولمة، تحولت هذه المظاهرات إلى ما يشبه الظاهرة العالمية لتشجيع الشذوذ الجنسي تحت اسم محاربة العولمة والشرعية الدولية، وقد قطع الرجال والنساء في الغرب شوطا كبيرا في قبول الشذوذ الجنسي كأنما هو شيء طبيعي، مع أنه انحراف أخلاقي خطير، وقد شارك في هذه المظاهرات مئات الألوف من الشعب الفرنسي تتقدم صفوفهم الأحزاب السياسية المختلفة ومنظمات حقوق الإنسان ؛ فهل يمكن لنا أن نؤيد مثل هذه المظاهرات المنتشرة في الغرب اليوم؟! نحن بلاد شرقية لنا خصوصية دينية وقيم نابعة من تراثنا وثقافتنا وهويتنا الأصلية، ولا نقبل أن ننساق وراء هذه الإباحية والشذوذ الجنسي الخطير!
هكذا تم الربط بين المظاهرات الشعبية ضد العولمة وضد كافة أشكال القهر الاقتصادية والجنسية إلى مجرد مظاهرات ضد القيم والأخلاق والخصوصية والهوية.
جسدي ينتفض بالغضب وأنا أقرأ الصحف، أكتشف الزيف بحكم خبرتي ومشاركتي في بعض هذه المظاهرات الشعبية العالمية، التي كسرت الحواجز بين الناس، حواجز الدين أو الجنس أو الجنسية أو العرق أو اللون أو المهنة أو غيرها. كنت أجد نفسي بين آلاف البشر بصرف النظر عن اختلافاتنا نهتف معا ضد هؤلاء القلة من الآلهة الذين يتربعون على العروش في جميع البلاد، وأسمع صوت شريف يقول: هذا الغضب يا نوال مضر بصحتك، وأنت لا زلت في دور النقاهة بعد هذا التسمم الغذائي، علينا أن نحافظ على صحتنا. وأقول له: معك حق يا شريف، لكن كيف لا أغضب وأنا أقرأ هذا التزييف اليومي تحت اسم الهوية والخصوصية واحترام الاختلافات الثقافية، يشجعون الخصخصة وضرب الاقتصاد المحلي، وتحت اسم العولمة من أعلى يضربون العولمة من أسفل.
كان معنا تلك الليلة صديق قديم لشريف، اسمه عادل أمين، وهو محام معروف، تولى الدفاع عني حين دخلت السجن عام 1981، جاء في زيارة لنا تلك الليلة يحمل زجاجة نبيذ وكتابا جديدا سجل فيه وقائع محاكمة الشيوعيين عام 1953، ضحك عادل أمين وهو يجلس معنا في الشرفة العالية، يرشف من كأسه على مهل، وقال: لا بد لنا من نبيذ عمر الخيام يا دكتور شريف حتى نتذكر هذه المحاكمات منذ سبعة وأربعين عاما، وفي هذا الجزء من كتابي نقلت أقوالك في التحقيق عام 1953، وأقوال الدكتور إسماعيل صبري عبد الله وغيره من قيادات الشيوعيين، وسوف تكتشف الفرق الكبير بين أقوالك في التحقيق وأقوالهم، وأنت يا شريف إنسان صادق مستعد أن تدفع حياتك لتعبر عن رأيك، وهذا واضح في التحقيق معك، لكن بعض زملائك الشيوعيين لم يكونوا كذلك، لقد دخلوا السياسة لأهداف أخرى مثل الحصول على منصب وزير أو رئيس وزراء أو جوائز الدولة، وأنت لم تحصل على شيء من هذا، لكنك حظيت باحترام الجميع وأنا منهم.
تركت شريف وعادل أمين يتبادلان الذكريات عن التحقيقات، أخذت الكتاب إلى غرفتي لأقرأ ماذا قال شريف حتاتة في ذلك التحقيق عام 1953، ذلك العام كنت طالبة بكلية الطب، أعاني ما يعانيه أحمد حلمي والفدائيون الذين شاركوا في حرب القنال عام 1951، أصبحوا كبش الفداء بين صفقة الحكومة المصرية والاحتلال البريطاني، مات بعضهم على أرض المعركة، مات بعضهم في المنفى في الخارج أو في الداخل، من عاش منهم أصابه المرض النفسي أو الإدمان من أجل النسيان، حتى اليوم لم يؤرخ أحد لهذه الفترة من حياة مصر، سقطت أسماء هؤلاء الفدائيين الشهداء في العدم.
تحت اللمبة الكهربية في غرفتي فتحت كتاب عادل أمين وقرأت أقوال شريف حتاتة في التحقيق:
ذكر شريف أنه قبض عليه في 3 نوفمبر 1953 الساعة الرابعة صباحا، وأودع السجن الحربي، وتم التحقيق معه يوم 5 نوفمبر 1953، وقيل له إنه مقبوض عليه بأمر من مجلس قيادة الثورة، وعومل بطريقة غريبة، السجن الانفرادي المطلق لمدة أربعة شهور محروما من كل شيء، صحف أو كتب أو الاتصال بعائلته أو بمحام، وضرب عدة مرات ضربا مبرحا، وكبل بالحديد الخلفي والحديد في الأرجل، وهدده ضابط المخابرات أحمد محمود بالشنق، وبالاعتداء الجنسي، والانتقام من أفراد عائلته إن لم يدل بالأقوال التي يريدها، كما هدده عدة مرات بالاعتداء عليه وشنقه داخل زنزانته. لم يصدر أمر من النيابة العامة بحبس شريف حتاتة إلا في 15 مارس 1954، ونقل إلى سجن مصر بأمر حبس عسكري، مطلوبا تقديمه لمحكمة الثورة وإعدامه مع بعض زملائه، لولا أن هذه المؤامرة أحبطت. كان التحقيق يجري في ظل الأحكام العرفية. وقال شريف في التحقيق: إن الشعب المصري يريد الكفاح المسلح في القنال لطرد الاحتلال، وإن النيابة مشتركة في الجريمة ضده، وإنه يحتج على هذا الإرهاب. وأضاف أن التعذيب أدى إلى إصابة زميله كمال عبد الحليم باختلال في قواه العقلية ، وعولج بالصدمات الكهربية في المستشفى العسكري، ومرض الآخرون بحالات عصبية وجسمية يحملونها معهم بقية العمر.
وتم مع شريف حتاتة ضبط مطبوعات كالآتي: ست نسخ من نشرة صوت الفلاحين، ست عشرة صفحة مكتوبة بالآلة الكاتبة ومطبوعة بالرونيو في شكل كتيب صغير، الصفحة الأولى منها عبارة مأثورة عن فردريك إنجلز تقول: «بغير نظرية ثورية لا يمكن أن توجد حركة ثورية»، وفي الختام عبارة تقول: «رجال الحكم في مصر يتعاونون مع الاستعمار لا يستطيعون مواجهة الشعب إلا بالدبابات والمشانق ومحاكم الثورة»، ثم هذه العبارة الأخيرة: «تسقط جمهورية الدكتاتورية العسكرية وتحيا الجمهورية الشعبية الديموقراطية.» وقد حكم على شريف حتاتة بعشرة أعوام سجن مع الأشغال الشاقة، أداها بالكامل داخل سجون مصر، لم يطلق سراحه إلا عام 1963، وظل تحت المراقبة عدة سنين بعد ذلك، حتى غادر مصر عام 1973، ثم عاد إلى الوطن عام 1980.
Unknown page