259

Awraqi

أوراقي … حياتي (الجزء الأول)

Genres

وفعلا يا نوال بعد أسبوع واحد بالضبط، وكان يوم جمعة الصبح، لقيت حمدي راجع، من يومها مابقتش اقرأ غير القرآن، وربنا قال عن السحر يا نوال وعن أرواح الجان، وآلاف الناس بتروح للشيخ المحلاوي، رغم إن الفيزيتا بتاعته بقت عشرة آلاف دولار يعني ثلاثين ألف جنيه، لكن كل يوم عنده آلاف ولازم أحجز قبلها بشهر أو شهرين، باشوفه مرة واحدة في السنة، وحمدي يقولي إزاي تصرفي فلوسك على الشيخ المحلاوي، وأقول له أهي فلوسي من عرق جبيني أصرفها على حد واحد عارف ربنا أحسن ما أصرفها على الشيطان، ويسكت حمدي، يخاف يفتح سيرة الشيطان، عشان مافكروش بالفلوس اللي صرفها في شقة الزمالك. •••

كانت المرة الأخيرة أرى فيها صديقتي القديمة بطة، صوتها كان يأتيني أحيانا عبر الأسلاك، يرد عليها شريف نيابة عني: نوال خرجت يا بطة لما ترجع أقولها تطلبك. لم أكن أطلبها، عيناها لا أريد أن أراهما مرة أخرى، رأيت فيهما شيئا مخيفا يشبه الموت، كأنما ماتت عيناها، تسري قشعريرة باردة في جسدي إذا تذكرتهما، وأسأل نفسي أهي الصدمة النفسية العنيفة في الزواج وشريك الحياة؟! أهو الانحدار الذي أصاب المجتمع في السنين الأخيرة؟! أهو اليأس المطلق إلى حد الإيمان المطلق بالشيخ الأعمى؟! وكان الشيخ المحلاوي أعمى مثل الشيخ حمدان في القرية، وكانت تقول عنه أم إبراهيم منذ أربعين عاما: «ربنا كشف الحجاب عنه يا ضكطورة وماحدش يعرف ربنا إلا العميان.» •••

إنها بدايات يونيو 2000، يوم صيفي رمادي غارقة تحت شبورة خانقة بلون الدخان، أعيش المنفى داخل الوطن كما عشته في الخارج، أشعر بالغربة وأنا أمشي في الشارع، تشبه غربتي حين كنت في مدرسة منوف الابتدائية ويرمقني الرجال بعيون جاحظة، يقذفني أحد الصبية بطوبة! أو كلمة نابية يسب بها أمي، يصب اللعنات على أعضاء الأنثى، خاصة العضو المبتور بالموسى، الملعون في الغياب كالحضور.

هربت من القرية إلى المدينة، لكن الضجيج، في النهار والليل، ومكبرات الصوت مثبتة فوق الجوامع والبيوت حتى المقابر، أصبح من حق الموتى سماع الأذان للصلاة وتلاوة القرآن في المأتم أو الطبول والغناء في الأفراح، ولم يعد من حق الأحياء النوم، خاصة في الأحياء الفقيرة مثل حي شبرا القديم، وفي الأحياء الراقية في مصر الجديدة لا تسمع الطبقة العالية ورجال الأعمال ونساؤهم إلا زقزقة العصافير وحفيف الأشجار في الحدائق الخضراء.

شبح الموت يطاردني منذ زيارتي الأخيرة لبطة، أشعر بالإثم حين تطلبني فأنكر وجودي، أقلب أحيانا في ألبوم الصور القديم، أراها إلى جواري يدها في يدي نضحك وسط حوض من الزهور، شعرنا الأسود يطيره الهواء، فمها مفتوح عن آخره كأنما أطلقت نكتة من نكاتها المأثورة، تبتسم صفية في الصورة بهدوئها المعهود، لم تكن تطلق هذه الضحكة الرنانة التي تطلقها بطة، تكركر ضحكتها مثل الماء الراقراق يخرج من عنق بلورية ضيقة، وسامية واقفة في طرف الصورة، شفتاها الرفيعتان مزمومتان في مواجهة الشمس القوية، لم تكن تضحك أبدا، وإن ابتسمت لا تنفرج شفتاها عن مساحة مرئية للعين.

أحيانا يدفعني الحنين فأطلب صفية، هي أقربهن إلي، إن لم أجدها أطلب سامية. ذلك اليوم طلبت بطة، بالأمس تركت لي رسالة تليفونية على آلة التسجيل: نوال كلميني، أنا في البيت. صوتها المبحوح تشوبه شرخة خفيفة جديدة وربما عندها زكام أو برد، في صيف أيام متربة حارة يهب هواء ساخن من الصحراء مع ذرات الرمال والدخان وفيروسات الأنفلونزا الصيفية القادمة من وراء البحار، ترشح الأنوف مع ارتفاع خفيف في الحرارة ثم ينتهي الزكام بعد أيام قليلة.

قلت: ربما أصابها فيروس وهي في البيت لم تخرج، ربما هي تنتظر مكالمتي، وأدرت قرص التليفون برقمها، رعشة خفيفة كالقشعريرة زحفت علي كالهواء البارد، كأنما النافذة انفتحت مع أنها مغلقة كأنما جسدي يدرك اللحظة القادمة قبل أن يدركها عقلي، وجاءني صوت رجل غريب، هل أخطأت الرقم؟! كنت أضع السماعة حين سمعته يقول: عاوزة مين حضرتك؟ - عاوزة بطة. - مين حضرتك؟ - أنا نوال السعداوي. - أهلا يا دكتورة. - مين حضرتك؟ - أنا الدكتور حمدي. - ما عرفتش صوتك يا دكتور ... أقدر أكلم بطة؟! - بطة؟ ... تعيشي إنتي.

توقف الهواء في صدري، الكلمتان «تعيشي إنتي» نسيت معناهما، غاب عن ذاكرتي لحظة، أصبح عقلي مثل صفحة بيضاء، ثم بدأت الذاكرة تعود بالتدريج. كنت طفلة في منوف حين سمعت الكلمتين لأول مرة في حياتي، كانت لنا جارة اسمها أم محمد، سألت عنها أمي ذات يوم فقالوا لها تعيشي إنتي. وقالت أمي إن أم محمد ماتت.

أمسكت رأسي بيدي الاثنتين وأجهشت دون بكاء دون دموع، كأنما نسيت البكاء منذ الطفولة ولم تعرف عيناي الدموع. عاد شريف إلى البيت رآني راقدة في الفراش مربوطة الرأس، قلت له: بطة ماتت يا شريف. كأنما أقول أمي ماتت أو أختي أو أخي، وكان أخي طلعت قد مات منذ شهور قليلة، ربما لم يكن وجهي شاحبا مثل هذا الشحوب؛ فلم يكن أخي صديقي في الطفولة، لم يكن بيننا حكايات عن الحب ولم نكن نضحك كثيرا كما كنت أضحك حين تحكي بطة آخر النكت، وأفقت على صوت شريف: البقية في حياتك يا نوال.

ومن يمكن أن يواسيني في هذا اليوم إلا صديقتي صفية أو سامية؟! لم تكن سامية في مصر، كانت في مؤتمر خارج البلد، وبكت صفية عبر الأسلاك حين سمعت الخبر، أغرقتها بالدموع، وسماعة التليفون في يدي أصبحت مبللة.

Unknown page