255

Awraqi

أوراقي … حياتي (الجزء الأول)

Genres

كنت أقاطع هذه الحفلات، يكتب رئيس الإدارة تقريرا ضدي، يقول لي إن حضور الحفلات جزء من العمل بالأمم المتحدة، والرقص مع الرئيس نوع من المجاملة الرقيقة، لا يخرج عن واجبات الموظفة الدولية. بدأ النزع يدب بيني وبين الرؤساء الأفارقة السود والرجال البيض على حد سواء. حاول أحدهم أن يغازلني، كان يشبه الدب الأبيض، يصعد الدم الأحمر إلى وجهه حين يراني، أستاذ بجامعة بنسلفانيا في الولايات المتحدة الأمريكية قبل أن يلتحق بالأمم المتحدة، أصبح يحمل لقب كبير الخبراء في اللجنة الاقتصادية الإفريقية، لم يكن يعرف شيئا عن مشاكل إفريقيا الاقتصادية، يقبض راتبا من الأمم المتحدة يصل إلى ثلاثين ضعف راتبه في جامعة بنسلفانيا، وراتبا آخر من البنك الدولي تحت لقب مستشار. كان يناديني باسمي الأول، وأناديه باسمه الأول، المساواة التقليدية الشكلية داخل الأمم المتحدة للتغطية على عدم المساواة بين الأفراد والدول. - جاية الحفلة الليلة يا نوال؟ - لأ يا رولاند. - ليه يا نوال؟ - عندي شغل. - شغل إيه؟! - رواية جديدة يا رولاند. - لازم تاخدي إجازة شوية.

لم يكن رولاند ذكيا، أغلب الرؤساء أغبياء، تعمي السلطة عيونهم عن رؤية الحقيقة الواضحة كالشمس، عيناي مثل كتاب مفتوح يقرؤه الجميع من حولنا، إنني لا أطيق رؤية رولاند أثناء النهار فما بال الليل. وكان الليل ساحرا على شواطئ إفريقيا الدافئة، في الشرق أو الغرب أو الجنوب، أجملها شاطئ بحيرة فيكتوريا ومنابع النيل. التقيت هناك بأحد الثوار من شيلي في أمريكا الجنوبية، هرب من وطنه قبل أن يحكموا عليه بالإعدام، كان طبيبا نفسيا ترك الطب والتحق بالأمم المتحدة كأحد خبراء التنمية الصحية، ثم استقال بعد أن أكمل الأربعة أعوام، الحد الأدنى للحصول على المعاش. عاد إلى شيلي ثم مات في فبراير 1984، انطلقت في صدره رصاصة من مصدر مجهول، هرب القاتل دون أن يمسكه البوليس. أرسل إلي بطاقة صغيرة من شيلي قبل اغتياله بشهرين فقط، بالضبط في عيد رأس السنة الجديدة أول يناير 1984، كتب على البطاقة هذه الكلمات:

إلى من جعلت شاطئ فيكتوريا أجمل من الوطن، وتركت فراغا في حياتي لا يملأه أحد، انتهيت من الراوية التي بدأتها منذ خمس سنوات يوم لقائنا الأول عند منابع النيل، ربما نسيت هذا اللقاء يا صديقتي العزيزة، لكنه اليوم الذي رأيت في عينيك نفسي الحقيقية.

روبرت

حين قرأ شريف البطاقة ابتسم وقال: يبدو أنه إنسان عاطفي. قلت: جدا. قال: هل أعجبك؟ قلت: جدا. ضحك شريف وقال: حكيت لي عن كل الذين غازلوك بمن فيهم الدب الأبيض ولم أسمع شيئا عن هذا الروبرت؟ قلت: وأنت حكيت لي عن كل من وقعت في غرامك إلا تلك السوزانا الصغيرة من لوزان (وكانت صورتها قد وقعت في يدي بالصدفة وهي مرتدية مايوه بيكيني على شاطئ موزمبيق جوارها شريف يبتسم في سعادة، مرتديا مايوها إفريقيا من سبعة ألوان، مثل ألوان الطيف).

في صباح يوم مشرق على شاطئ بحيرة فيكتوريا، دعاني روبرت على الغداء في مطعم صغير يطل على البحيرة، كنت أمشي كل صباح على الشاطئ لمدة ساعة ونصف قبل أن أحضر جلسات المؤتمر الدولي، تعودت على رياضة المشي كل صباح أو الجري سبعة كيلو مترات، أستقبل أول شعاع للشمس من وراء البحيرة، أرفع ذراعي في الهواء، أغمض عيني، أحس الشعاع الدافئ فوق جفوني، أفتح عيني على خضرة الشجر والأرض، وحصان أبيض يركبه فارس يرتدي بدلة بيضاء، لوح لي بيده من تحت زرقة السماء: صباح الخير يا نوال. - صباح الخير يا روبرت. - أين ستتناولين العشاء الليلة؟ - لا أعرف، هناك حفلة عشاء للمشاركين في المؤتمر. - لا أحب حفلات العشاء. - ولا أنا. - إيه رأيك أدعوك إلى مطعم صغير يطل على البحيرة؟ - سأدفع ثمن عشائي يا روبرت. - كما تشائين .

وأنا أرشف النبيذ الأحمر مع قضمات من الحمامة المشوية، كنت أراه جالسا أمامي يرمقني بعينين زرقاوتين يكسوهما البريق، عيناه تلتقيان بعيني، أتظاهر أنني لا أرى ما فيهما، أقضم بأسناني عظام الحمامة الصغيرة، أسمعها تقرقش بصوت مسموع، أثبت له أنني منشغلة عنه بالحمامة المشوية، وأنني لست هشة العظام مثل الحمامة، أو حسناوات الأمم المتحدة، السمراوات أو الشقراوات، وقلبي مليء بالحنين إلى منابع النيل. - عيناك السوداوان ساحرتان وشعرك الأبيض هذا في ريعان الشباب. - أنت أيضا شعرك أبيض في ريعان الشباب. - أهي وراثة؟ - ربما. - أو دليل العبقرية؟!

الحوار يدور حتى نعود إلى الفندق، لم يكن شريف معي في هذا المؤتمر، قلت له حين سافرت إليه، كدت أقع في الحب يا شريف لولا ... قال: لولا ماذا يا نوال؟ قلت: لولا ذلك المرض النسائي. قال: أي مرض هذا؟ قلت: هذا المرض الذي يسميه الدكتور عبد القادر ... قال شريف: وما يسميه؟ قلت: الوفاء الكلابي. وضحكنا ثم شربنا نخب هذا الوباء المزمن. •••

الصوت يوقظني من النوم، أمد ذراعي وأمسك يده، تنسحب يدي وحدها وتختفي تحت الوسادة، عيناه زرقاوان بلون البحيرة في يوم مشرق. أعود إلى النوم، وأصحو على صوت جرس التليفون، إنها صفية تكاد تصرخ: صحيح يا نوال ما يقوله الدكتور عبد القادر؟ أفتح جفوني، وأرى الساعة تشير إلى الثالثة صباحا، أصيح بضيق: يا صفية أنت تعرفين الدكتور عبد القادر منذ أيام الكلية، ألم يكن يدس لك في الكشكول رسالة حب كل يوم؟ إنه يريد الانتقام منك؛ لأنك رفضت الزواج منه، يرد لك الصفعة يا صفية. الدكتور عبد القادر يقول لي ما أقول لنفسي يا نوال، كيف أخلص لزوجي وهو خائن؟! الوفاء مقابل الخيانة ليس وفاء بل مرضا! إنه التعلق المريض بالزواج وإن كان فاسدا، إنه الخوف المريض من فقدان الحب وإن كان غير موجود، أو فقدان الدور المزيف الذي لعبته في حياة زوجي خمس سنوات، كيف أفقد حاجته إلي؟! كان يقول لي لا أستطيع الحياة بدونك، أنا لم أحبه يا نوال، لكني أحببت اعتماده على وجودي ، لكني تشبثت به، كنت أخاف الطلاق، أصبحت أعتمد عليه يا نوال، لا أستطيع أن أعيش بدونه، انقلبت الأوضاع، أصبحت مثل الكلب التابع لسيده، لا يستطيع أن يفارقه، ويموت بموته. العبارة تنطقها صفية بصوت يقطر مرارة، تضغط على الحروف، تلوكها، تلفظها من بين شفتيها حرفا حرفا؛ كالعلقم المر ينساب قطرة قطرة ... وفاء ... كلابي؟! •••

عام 1998 دق جرس التليفون في شقتي الصغيرة الجديدة في حي شبرا القديم، تركت شقتي في الجيزة بعد العودة من المنفى العام الماضي. عشت فيها منذ عام 1960، سبعة وثلاثين عاما عشتها في شقة الجيزة شارع مراد، بعد الطلاق الثاني استأجرت هذه الشقة في الدور الخامس، إلى جوار الكنيسة الكبيرة، تطل على آخر سور حديقة الحيوان، عشت مع طفلتي الصغيرة ودادة أم إبراهيم، استأجرت لأخواتي الشقة في الدور الثالث، دخلت ابنتي مدرسة الحضانة المجاورة في شارع النيل، ودخلت أخواتي الجامعة التي لا تبعد عن البيت إلا مسافة عشر دقائق على الأقدام بالخطوة السريعة.

Unknown page