226

Awraqi

أوراقي … حياتي (الجزء الأول)

Genres

لم يكن الدكتور عبد العظيم متأكدا أن يدي اليمنى سوف تعود كما كانت، كان يشك في الشفاء الكامل، النتيجة لن تعرف إلا بعد التئام الجرح وإزالة الجبس، كان الجبس ضروريا حتى لا يتحرك المعصم.

بدأت أستعيد قوتي في اليوم الثالث، في اليوم الرابع رأيت الدكتور سعيد عبده واقفا إلى جوار السرير، كان أستاذا في الكلية للصحة العامة، يجمع بين الطب والأدب، يكتب عمودا منتظما في الجريدة بعنوان «خدعوك فقالوا». قرأ لي بعض المقالات والقصص في مجلات الكلية، سمع كلمتي في حفل تأبين الشهيد أحمد المنيسي ومناسبات أخرى. قال الدكتور سعيد عبده: تقدري يا نوال تجهزي كلمة تلقيها في حفل التخرج نيابة عن الطلبة؟ أنا شايف إنك في حالة كويسة، والصوان حيكون هنا جنبك في حوش المستشفى، يدوب خطوتين، ويمكن استخدام التروللي إذا كان المشي صعب عليك، إيه رأيك؟ إنت الوحيدة بين طلبة الطب اللي عندك قلم وممكن تكتبي كلمة أدبية كويسة وتلقيها في حفل التخرج؛ ده حفل مهم جدا يا نوال، عميد الكلية حيحضر ورئيس الجامعة وكمال الدين حسين وزير التعليم، غير كل الأساتذة والطلبة والطالبات.

كان ذلك منذ خمسة وأربعين عاما، وأصبح في درج مكتبي صورة فوتوغرافية لي جالسة وراء الميكرفون على المنصة: ذراعي اليمنى ملفوفة بالجبس ألقي كلمتي في حفل التخرج بداية عام 1955، عن يميني يجلس وزير التعليم وعن يساري رئيس الجامعة ثم عميدة كلية الطب. هذه الصورة بقيت في درج مكتبي عامين ثم تمزقت مع صورتي فوق بطاقتي الشخصية وبطاقة نقابة الأطباء، وصور أخرى في الشباب والطفولة. كانت الصور ضمن أوراقي التي حملتها معي من بيت أبي، ذكريات طفولتي، لحظات عمري غير المنسية ومفكرتي السرية، انقض عليها يمزقها، أصابعه الغليظة ترتعد، عيناه اختفى النني تحت الجفن، والبياض بلون الثلج تخترقه شعيرات دموية جاحظة، يمسك الصورة بين إصبعين ويصرخ: دي صورتك في حفلة التخرج مع العميد والوزير، طبعا بقيتي دكتور عظيمة وأنا فاشل مدمن، إزاي تعيشي مع فاشل مدمن يا دكتورة؟ لكن فين كلامك بتاع زمان، نعيش سوا ونموت سوا، مش عاوزة تموتي معايا ليه يا دكتورة؟ عاوزة تمشي وتسيبيني أموت لوحدي؟!

مزق الصورة، ألقى بها في صفيحة القمامة، وانقض على الصور والأوراق كلها يمزقها ورقة ورقة، ثم انقضت أصابعه الغليظة المرتعدة حول عنقي، كان في حاجة إلى جرعة جديدة من الماكسيتون فورت لا يستطيع شراءها من الصيدلية، لم يجد في حقيبتي قرشا واحدا، لم يجد في البيت شيئا يمكن أن يبيعه، لم يعد يؤمن بالله أو الوطن أو الحب. يصرخ بصوت يسمعه الجيران: الثلاثة وهم، والإخلاص وهم. كأنما تكشفت له الحقيقة النهائية ولم يبق إلا الموت ... لكن قبل أن يموت الفدائي لا بد أن يقتل، الدرس الأول تلقاه في حرب العصابات: لا تمت قبل أن تقتل عدوك. •••

بقيت الصورة الممزقة في الدرج السنة وراء السنة، خمس سنوات، حتى عام 1961، دق جرس الباب ودخلت ثريا حمدان، كانت تسكن إلى جواري في شارع الجيزة، تشغل منصبا كبيرا في مبنى التلفزيون الجديد. سألتني: عندك رواية للشاشة الصغيرة يا دكتورة نوال؟ قلت: لا أكتب للتلفزيون يا أستاذة ثريا. سألتني: ليه يا دكتورة؟ قلت: لا أعرف، لم أجرب. قالت: حاولي تكتبي حاجة للتلفزيون؛ عندك قلم مميز ولك قراء وقارئات، والشاشة في حاجة إلى أعمال أدبية جيدة، وهي نادرة، هيه قولي لي متى أتسلم الرواية منك؟

جلست في الليل أفكر، فتحت الدرج حيث الأوراق القديمة والذكريات الطفولية، لمحت صورتي الممزقة ضمن الأوراق، تأملتها طول الليل، قبل شروق الشمس أمسكت القلم وصفحة بيضاء، كتبت عنوان الرواية: الصورة الممزقة.

كانت هي الرواية الأولى التي كتبتها لشاشة التلفزيون، رواية طويلة عرضت في ثماني حلقات، كل حلقة أربعون دقيقة، كنت أتابعها بعد أن أعود من العيادة ... أم إبراهيم تجلس عيناها فوق الشاشة، تمسح دموعها وتنشج بصوت مكتوم. في درج مكتبي حتى اليوم دوسيه كبير مكتوب عليه «الصورة الممزقة»، من مائتين وعشرين صفحة، أفكر اليوم في طبعها داخل كتاب حتى لا تسقط من التاريخ.

المشرط والقانون

أحملق في المرآة وأنا واقفة في غرفتي، ذراعي ملفوفة بالجبس، النتيجة فوق الحائط ثابتة عند العام 1960، صورة الأشعة على المكتب والتقرير، كسر في عظمة الريدياس اليمنى. منذ خمسة أعوام كدت أفقد يدي اليمنى بسبب الغضب، عادت يدي كما كانت إلا من جرح عميق فوق المعصم غائر حتى العظم.

غضبت من أبي وضربت الباب الزجاجي. اليوم أنا غاضبة من نفسي، من هذه المرأة داخل المرآة، تزوجت بلا حب وحملت بلا حب ثم قفزت من الشرفة لقتل الجنين، لكن الجنين لم يحدث له شيء، فقط انكسرت ذراعي اليمنى.

Unknown page