221

Awraqi

أوراقي … حياتي (الجزء الأول)

Genres

وامتلأت عيناها بدموع محبوسة، كانت تنتفض بالغضب، صوتها يتقطع وأنفاسها تلهث: تصوري يا نوال ... تكرر هذه العبارة مع اللهاث: تصوري! - أتصور إيه يا سامية؟ - شيء لا يمكن أصدقه! - إيه يا سامية؟ - تصوري يا نوال ...

صوتها يختنق تكف عن الكلام، تنشج بصوت مكتوم، أنفاسها تتقطع مع كلماتها، تصوري يا نوال ... مش قادرة أتصور يا نوال ... تصوري رفاعة جوزي، الرجل المثالي صاحب المبادئ، الرجل اللي دخل السجون عشان المبادئ، تصوري رفاعة ... هل ممكن حد يصدق أن رفاعة يعمل كده؟! من يوم ما مسكوه ودخل السجن وأنا زي النحلة رايحة جاية عشان يطلعوه. - عمل إيه رفاعة يا سامية؟ - تصوري إنه له علاقة بواحدة تانية! - وعرفت إزاي؟ - وقع في إيدي جواب كتبه لها باين مسكوه قبل ما يبعت لها الجواب. - مجرد جواب يا سامية. - رسالة حب يا نوال! - مجرد حب عذري حب طاهر رومانتيكي. - رفاعة رجل مادي جدلي ماركسي لا يمكن يؤمن بالكلام الفارغ ده!

حين سمعت بطة القصة أطلقت ضحكتها الساخرة وقالت: كل الرجالة خائنين يا سامية يمين ويسار ووسط، وكل النساء خائنات، بنات حواء أو بنات مريم العذراء، الفرق الوحيد بينهم أن الرجل خيانته مكشوفة، لكن المرأة بير من جوه بير. والعلاج الوحيد إنك تخونيه زي ما خانك، وربنا قال العين بالعين والسن بالسن والبادئ أظلم. وكمان من حظك السعيد أنه محبوس في السجن! ترددت صفية في التعليق، أطرقت قليلا تفكر، ثم رفعت إلينا وجهها شاحبا وقالت: الطلاق عندي أحسن من الخيانة؛ لأنك يا سامية حتخوني نفسك مش أي حد تاني.

صوت صفية كان يرتعش قليلا، وهذا الشحوب بدا غريبا، أتعيش صفية المأساة نفسها؟! لم تكن صفية مثل سامية وبطة، تميل أكثر إلى الكتمان. كان في شتاء عام 1960، وكان لا بد من مرور أربعين عاما حتى أسمع صفية تقول: خلاص يا نوال أنا قررت الانفصال عن مصطفى. •••

كنت أقول لنفسي لا يمكن أتزوج دون حب، كيف يجمعني فراش واحد مع رجل لا أحبه، وتسألني بطة: وليه مش بتحبيه يا نوال، رجل محترم من رجال القانون مركزه مرموق وعنده عربية وشقة وفلوس وواقع في غرامك لشوشته، ليه ترفضيه؟ عيبه إيه يا نوال؟

هذا السؤال «عيبه إيه» ظل يحيرني نصف قرن، كنت أسمعه من أبي وأمي وجدتي وخالاتي وعماتي ، عيبه إيه العريس يا نوال؟ سؤال لم أعرف جوابه، وبطة تلح في السؤال. - مش عاوزة تتجوزيه ليه؟ - مش عارفة. - عيبه إيه؟! - يمكن ... - يمكن إيه؟! - عينيه ... - ما لها عينيه؟! - مطفية. - حاتعملي بعينيه إيه في الجواز يا نوال؟!

تكركر بطة بضحكتها المتقطعة، شهقاتها ترن في أذني مثل هواء محبوس يندفع من عنق زجاجة ضيق، ضحكتها معدية، أضحك رغم الثقل في القلب، رغم أنني لا أحبه سأتزوجه، رغم انطفاءة عينيه، رغم أنني أكره رجال القانون، يصبهم القانون في قالب واحد كالأسمنت. السؤال يدور في رأسي، لماذا أتزوجه وأنا لا أريد أن أتزوجه؟ قوة في السماء أو الأرض تدفعني إلى الزواج رغم إرادتي؟! قوة غامضة كالوهم، كضغط الهواء الجوي، قوة إلهية أو شيطانية تدفعني إليه رغم أنفي وأنا في كامل الوعي.

تلك الليلة من شتاء عام 1960 تأخرت في العيادة، جلست إلى مكتبي بعد أن انتهيت من آخر مريض، وضعت رأسي بين يدي الاثنتين وسقطت في ما يشبه النوم، هذه الحالة المتأرجحة بين النوم واليقظة، اللحظة التي يغيب فيها العقل الواعي، تختفي الأنا العليا تحت سطح البحر، يبرز رأس جبل الثلج من تحت الماء، يرمقني مثل عين في السماء، عين مفتوحة لا يطرف لها جفن، ساهرة طوال الليل لا تنام. أمسك القلم وأكتب كلماتي فوق الورق متقطعة أنفاسي ألهث، ذؤابة ضوء يضربها الهواء تكشف عن الشيء المتخفي في الظلام، لا ينتمي إلى طقوس اللغة أو الكتابة، يتمرد على كل ما هو مألوف، يخلق من حوله اضطرابا وقلقا وتشكيكا في كل ما درجت على الإيمان به، يفرض علي القطيعة مع مفردات اللغة، والاستغناء عن الثواب والعقاب، يدفعني نحو المجهول خارج المفهوم.

أفقت على صوت سامية، كانت تمر علي بالعيادة حين تشتد بها الأزمة، زوجها رفاعة في السجن مع أسعد شقيق صفية. منذ الأحداث الأخيرة في العراق امتلأت السجون بكل من رأى أن الوحدة الفيدرالية مع العراق أفضل من الاندماج الكامل، كان جمال عبد الناصر يرى أن الوحدة الاندماجية أفضل، دخل السجون كل المعارضين في الرأي. جاءت سامية وراحت تشرح لي الفرق بين الوحدة الفيدرالية والوحدة الاندماجية. كان لصوتها نبرة خطابية تؤلم الأذن، إن ارتفع صوتها أو انخفض تظل هذه النبرة المؤلمة، إن فرحت أو ضحكت يظل لصوتها رنين متشائم يوشك على البكاء. منذ المدرسة الثانوية كانت صديقتي، يجذبني إليها اختلافها عن بطة وصفية وبقية الزميلات، وجهها النحيل الشاحب دون مساحيق، شفتاها الرفيعتان المزمومتان بقوة غير أنثوية، أحاديثها عن ماركس والفرق بين الدياليكتيكية المادية وغير المادية، ولينين وعبد الناصر. تغيرت سامية قليلا قبل زواجها من رفاعة أيام الحب، بدأت تكحل عينيها قليلا، تضفي على خديها وشفتيها شيئا من اللون الأحمر الشاحب، لم تتغير نبرة صوتها بل زادت حدة. وتواصل حديثها، أستمع إليها ورأسي بين يدي الاثنتين: تفتكري عبد الناصر مخلص للبلد يا نوال؟ الوحدة العربية فشلت بانفصال سوريا عن مصر، والديموقراطية فشلت بدخول المعارضين السجون، والاشتراكية فشلت، لا فيه تنمية ولا فيه تذويب الفوارق بين الطبقات، والأموال اللي عادت لمصر بعد تأميم قناة السويس وتأميم الشركات كلها راحت في جيوب الطبقة الجديدة من ضباط الجيش وأعوانهم، لا يمكن عبد الناصر يكون مخلص للبلد يا نوال!

يزداد صوتها تشاؤما حين تنتقل من حديثها عن عبد الناصر إلى زوجها رفاعة. - تفتكري رفاعة مخلص يا نوال؟

Unknown page