220

Awraqi

أوراقي … حياتي (الجزء الأول)

Genres

بيت المرحوم جدي، ضاحية الزيتون، 19 أبريل 1945

بعد ستة وثلاثين عاما من هذا اليوم، وجدت نفسي داخل زنزانة في سجن النساء بالقناطر، كانت لي مفكرة سرية أخبئها تحت الأرض كما كنت أفعل في بيت جدي وأنا في الرابعة عشرة من عمري، يدي ترتعش بالغضب وأنا أكتب هذه الفقرة في مذكرات السجن: تتطلب الكتابة شجاعة مثل القتل، لو لم تعرف أصابعي القلم ربما عرفت الفأس أو الساطور، يدها، فتحية القاتلة، حين أمسكت الفأس وقتلت زوجها، تشبه يدي وهي تمسك القلم، لا شيء في حياتي أثمن من القلم، الكتابة تتطلب شجاعة مثل القتل وأكثر.

سجن النساء بالقناطر، 14 نوفمبر 1981

كنت جالسة أكتب تلك الليلة من شتاء عام 1960، حين دخل زوجي إلى غرفتي. أمامي فوق المكتب تراكمت الأوراق، رواية طويلة سهرت عليها طوال الليالي والشهور والسنين، كانت تنمو في أحشائي كالجنين، أحوطها بذراعي، أهدهدها في سكون الليل، رأسي يسقط وينام فوقها وأنا جالسة، أهبط معها إلى بطن الأرض حيث الصمت داخل الصمت.

كانت الرواية تأخذني إلى عالم آخر، أنسى فيه نفسي وابنتي وإخوتي وأقرب الناس من دمي ولحمي، فما بال رجل ليس من دمي ولا لحمي ولا يربطني به شيء، إلا ورقة زواج.

حين اقتحم غرفتي فجأة لم أتعرف على ملامحه، هذا الوجه الأبيض السمين المتورد لم يكن يجذبني في الرجال، هذا الجسم المربع الممتلئ باللحم ينفرني في النساء فما باله بالرجال، والعينان ليس فيهما ما أبحث عنه، والأنف ليست له الارتفاعة التي أحبها، والصوت ليست فيه النبرة التي تجذب أذني ، كل شيء فيه ليس ما أريد في الرجل، فما بال أن يكون زوجي؟!

لا بد أنها امرأة أخرى تقمصت جسمي واسمي وذهبت معه إلى مكتب المأذون ووقعت العقد، امرأة غيري ساخرة عابثة لا تؤمن بالحب، ترتدي معطف الأطباء دون أن تؤمن بالطب، تكره الرجال والأمراض ورائحة المستشفيات، لم تدخل كلية الطب إلا من أجل أبيها الميت وأمها الميتة، تكره الزواج منذ الطفولة، لم تتزوج للمرة الثانية إلا لتمسح من ذاكرتها المرة الأولى.

كان زوجها الأول فدائيا، مات بعد أن عاد من الحرب، لم يبق منه إلا خيال رجل، وهذا الخيال أيضا راح وسقط في العدم. قبل الزواج بدأت رواية طويلة. بعد الزواج كفت عن الكتابة، رقدت الأوراق فوق مكتبها مثل جثة هامدة.

كل ليلة حين أنام أظن أنني لن أصحو، في الصباح تعود إلي ذاكرتي مع ضوء الشمس، أرتدي ملابس الخروج، أحمل حقيبتي الجلدية السوداء التي تشبه حقائب الأطباء، أتذكر أنني تخرجت في كلية الطب وأصبحت طبيبة. الساعة فوق معصمي تشير إلى الثامنة، أسرع الخطو في الطريق إلى المستشفى، أتوقف لحظة ألتقط أنفاسي، أتذكر أنني تزوجت ولي طفلة تحتاج إلى كوب لبن وزوج يحتاج فخذ دجاجة محمرة.

ذاكرتي مثل جبل الثلج تحت الماء، لا أكاد أعرف الزوج الأول من الثاني، كلاهما كان يحب فخذ الدجاجة المحمرة. صديقتي بطة تكركر بالضحك وتقول: حين ينطفئ النور يتساوى جميع الرجال. تعترض صفية وتقول: لا يفرق بين الرجل والرجل إلا الحب. لم تكن سامية تؤمن بالحب، تقول عنه رومانتيكية طفولية، الحب وهم كبير يا نوال، الحب قبل الزواج يفسده، والحب بعد الزواج ينتهي بالطلاق، تزوجيه يا نوال لأنك لا تحبينه، لا يصلح للزواج إلا رجل لا يخفق له قلبك، على الأقل حين يخونك مع واحدة ثانية لا تشعرين بالألم!

Unknown page