في الدور الأرضي أسمع صوت أم إبراهيم تدندن لنفسها بالموال القديم:
في البر لم فتكم في البحر فتوني، بالتبر لم بعتكم بالتبن بعتوني ...
يتصاعد صوتها العذب مع نكهة الشاي والفطيرة الساخنة في الفرن، تعود إلي رائحة أمي وصوتها يغني وأنا طفلة. - صباح الخير يا ضكطورة، الفطور جاهز ع السفرة.
أصبحت دادة أم إبراهيم جزءا من أسرتي الصغيرة، تهدهدني في السرير، تدللني، تغمرني بالحب، تعوضني عن الأم الغائبة والحب المفقود، تتربع فوق الشلتة بجوار السرير، تحكي لي قصتها من يوم ولدتها أمها، وقصة أمها وجدتها ونساء طحلة وكفر طحلة، قبل أن تنام تطل على ابنتي في سريرها، تحكم إغلاق النوافذ والأبواب، تأتيني إلى سريري لتحكم من حولي الغطاء، تمسك قدمي اليمنى تدلكها بين يديها الكبيرتين القويتين، ثم القدم اليسرى، وتعود إلى القدم اليمنى، حتى يذوب التعب المتراكم طوال السنين. - يا ضكطورة طول النهار واقفة على رجليكي في أوضة الكشف، واللي زاد علينا كمان المعسكر، إلهي يعينك وينصرك على أعدائك وأولهم الراجل اللي اسمه «خير الله»، الرجل ده كله شر، ولازم يكون اسمه شر الله! وهو اللي كان لازم يشيل السلاح ويروح الحرب مش يقعد هنا زي المره!
كلمة «المره» خرقت أذني بصوتها الحاد ، تعني باللغة الدارجة «المرأة»، أكبر إهانة للرجل المحترم أو غير المحترم أن يقال له «أنت مره»، كيف نطقت أم إبراهيم بهذه الكلمة؟ ألا ترى أني امرأة وهي أيضا امرأة وهذه الإهانة تشملني وتشملها؟ - سامحيني يا ضكطورة إلهي يشل لساني إن نطقت الكلمة دي تاني! أصل لساني واخد على كلام الفلاحين الزفر، لكن المره ما لها يا ضكطورة، فيه مره بعشرين راجل من زي اللي ما يتسماش خير الله!
أصبح المعسكر في الوحدة خلية من النحل، الشباب من القرى الأربع تسابقوا للتدريب على السلاح، الفتيات دخلن فريق الإسعافات الأولية، لم تقبل على حمل السلاح إلا الحكيمة زينات، كانت تتدرب معي على الرماية، أحد المدربين ضابط في الجيش ينادونه «اليوزباشي علاء»، أبيض البشرة طويل يميل إلى البدانة عريض الكتفين، تلمع فوقهما النجوم العسكرية، يأتي كل يوم داخل عربة جيب، شاربه أسود كثيف، عيناه زرقاوان ضيقتان تنغلقان حين يضحك، يقفز لحم وجهه ليصبح مستديرا كوجوه الأطفال، تتلاشى العينان إلا من خطين رفيعين تحت الحاجبين الكثيفين، صوته يخرج من الأنف، تشوبه رنة استعلاء، كبرياء الطبقة الجديدة مع التهاب الجيوب الأنفية. - يا دكتورة الشعب فقير وجاهل لو مسك السلاح في إيده أول ما يضرب الحكومة، وعندي أوامر من القيادة العليا بعدم توزيع السلاح على الشباب في المعسكرات.
كان متحمسا لتدريبي على الرماية وإطلاق النار، لم يكن متحمسا لسفري إلى بورسعيد ضمن المقاومة الشعبية. - «هي بلدنا ما فيهاشي رجالة يحاربوا؟ المرأة رقيقة زي ورق السوليفان، معقول تروحي الحرب يا دكتورة نوال وتقتلي زي الرجالة؟»
لم يكن يكف عن ترديد هذه العبارات، نوع من الغزل الركيك يصيبني بالنفور، يده يتركها فوق كتفي حين يعلمني كيف أحمل البندقية، عيناه تختلسان النظر إلى صدري تحت بدلة الصاعقة، ترتعش يده السمينة بحركة ملحوظة، إذا التقيت عيوننا يتراجع إلى الوراء كالفأرة أمام القط، أعطاني لقب «الكابتن»، وأطلق علي اسم «وايلد كات»، تعني بالإنجليزية القطة المتوحشة
Wild cat .
انتهيت من فحص المرضى في العيادة الخارجية، جاء اليوزباشي علاء، «تسمحي يا دكتورة نوال أتكلم معاكي ؟» طلبت له فنجان قهوة، يحلو له الحديث عن نفسه، بطولاته في القوات المسلحة، الميدالية التي أخذها من يد عبد الحكيم عامر، شهادة التقدير حصل عليها من الكلية الحربية، جائزة التفوق في الإبراهيمية الثانوية، الفائز الأول في مسابقة الجري بالمدرسة الابتدائية، يضع يده البيضاء السمينة داخل صدره، يخرج محفظة جلدية منتفخة يشد منها جراب من البلاستيك الشفاف «دي صورتي في المير دي دييه يا دكتورة نوال.»
Unknown page