159

Awraqi

أوراقي … حياتي (الجزء الأول)

Genres

كلمة «الطاعة» ترن في أذني كالكلمة النابية، كنوع من السباب أو إحدى صفات العبيد، الناس من حولي يقولون الطاعة فضيلة، وأنا أراها رذيلة، الطاعة معناها أن ألغي عقلي وإرادتي وأصبح مطية للإرادات الأخرى، الطاعة معناها أن أفقد إنسانيتي وأتحول إلى فصيلة أخرى، يسمونها الإناث، أو الزوجات المطيعات، أو الحيوانات المستأنسة في البيوت، لا ترفع الواحدة منهن عينها في عين زوجها، واجبها الطاعة وواجبه الإنفاق.

كلمة «الإنفاق» ترن في أذني كالسباب، كلمة مهينة مشبعة بالإهانة، الإنفاق مقابل الطاعة، الأسياد بالخدم والعبيد، أو علاقة الذكور بالإناث في بيوت البغاء، الرجل يدفع الفلوس والمرأة تلبي أوامره، الطاعة هنا مثل طاعة الزوجة مقابل الإنفاق وليس بسبب الاقتناع.

البند الثالث في قانون الزواج أسوأ من البند الأول، من حق الرجل أن يطلق زوجته حين يشاء ويتزوج عليها امرأة أخرى إذا شاء، وليس للزوجة أن تطلق زوجها إلا في المحكمة إذا أراد القاضي، ولا يمكن لها أن تتزوج رجلا آخر وإلا اعتبرت زانية؛ لأنها تجمع بين زوجين، الرجل لا يكون زانيا إذا جمع بين أربع زوجات.

قانون الزواج ينتهك قانون الأخلاق، المبدأ الأول في الأخلاق هو أن الناس جميعا متساوون أمام القانون بصرف النظر عن الجنس أو النوع أو الطبقة أو العرق أو العقيدة، المبادئ الأخلاقية تسري على الجميع لا فرق بين ذكر وأنثى أو فقير وغني أو حاكم ومحكوم.

لم يكن لي أن أقرأ بنود قانون الزواج دون أن يتملكني الغضب، ينتفض جسدي بالغضب، هل يمكن أن أضع نفسي تحت طائلة هذا القانون؟ أليس هذا نوعا من الجنون أن أقدم على الزواج من أي رجل، وإن أحببته، فما بال رجل لا أحبه؟!

كان الطلاق الأول في حياتي هو الانطلاق، كالعصفور ينطلق في السماء، بعد توقيع القسيمة، انفتح باب السجن وخرجت إلى الحرية، قبضت بأصابعي الخمسة على ورقة الطلاق كالغريق يقبض على قارب النجاة، لحظة من لحظات العمر المتألقة، تشبه لحظة نجاحي وحصولي على شهادة الطب، أو اللحظة حين تسلمت أول مرتب عن عملي، تحررت وأصبحت أنفق على نفسي، كان أبي هو الذي ينفق علي، لم يكن يطلب مني الطاعة مقابل الإنفاق، علمني الكرامة واحترام نفسي، علمني الجدل ومناقشة كل شيء حتى وجود الله، كنت أناقش أبي وأناقش الله، فهل أنحدر إلى مرتبة الزوجات واجبهن الطاعة مقابل الإنفاق؟! لم أكن في حاجة إلى زوج ينفق علي، أحمل لقب دكتورة، لي كيان جديد ليس هو أنثى أو ذكر، أفحص أجساد الذكور كالإناث، أصعد فوق التقسيمات المفروضة بالجنس، أصعد فوق القانون الذي يحكم النساء، يسمونه قانون الأحوال الشخصية، تنحدر تحته المرأة من إنسانة كاملة الأهلية إلى زوجة ناقصة الأهلية، كالطفل أو القاصر لم يبلغ سن الرشد، كالمريض بعقله المجنون في حاجة إلى وصي، زوجها هو الوصي عليها، يمتلك جسدها وعقلها تحت اسم الشرع، يضربها إن عصت الأوامر تحت اسم التأديب، يتزوج عليها ثلاث نساء أخريات، يطلق عليها الرصاص إذا لمحها مع رجل آخر، ويخرج من ساحة المحكمة بريئا شهما مدافعا عن الشرف.

كلمة «الشرف» ترن في أذني غريبة، ينتفض جسدي بالغضب، كان الشرف قاصرا على سلوك المرأة، يرتبط بجزء معين في نصفها الأسفل، لم يكن الشرف يتعلق بسلوك الرجل، لا يعيب الرجل إلا جيبه، إذا امتلأ جيب الرجل بالفلوس أصبح شريفا وإن مارس الجنس مع عدد من النساء داخل الزواج أو خارجه.

صوت النسوة والرجال من عائلة أمي وأبي يرتفع في نفس واحد: ما له الدكتور رشاد؟ عيبه إيه؟ الرجل ما يعيبه إلا جيبه! عنده عمارة وعزبة وعيادة وعربية شيفروليه، ناقصه إيه؟ ناقصه إيه الدكتور رشاد؟

السؤال يدور في رأسي وهو جالس أمامي في غرفة الصالون، أبي منشغل بالحديث في السياسة، تضاعف حماسه لجمال عبد الناصر بعد تأميم قناة السويس عام 1956م، كاد يتطوع في المقاومة الشعبية ضد الاعتداء الثلاثي. - من أول ما قامت الثورة ومن أيام محمد نجيب وأنا أقول إن جمال عبد الناصر هو القائد الفعلي للثورة ... ولا إيه رأيك يا رشاد بيه؟ - أنا معك يا سعداوي بيه، لكن عبد الناصر رايح شمال خالص ناحية الاتحاد السوفييتي وده فيه خطورة على بلدنا يا سعداوي بيه ... - خطورة إيه يا رشاد بيه؟ - الشيوعية يا سعداوي بيه. - عبد الناصر لا يمكن يكون شيوعي يا رشاد بيه، ده راجل مسلم ومؤمن بالله والرسول، لكن أمريكا رفضت تمويل السد العالي وأصبح تأميم القناة وتأميم الشركات الأجنبية شيئا ضروريا، يعني إحنا ما صدقنا خلصنا من الاستعمار الإنجليزي لازم نقع في الاستعمار الأمريكي يا رشاد بيه؟ - أنا ضد الاستعمار الأمريكي يا سعداوي بيه، لكن أنا كمان ضد الاستعمار الروسي. - جمال عبد الناصر راجل وطني رفض كل الأحلاف يا رشاد بيه، ولا يمكن يقع تحت الاستعمار الروسي أو غيره.

في غرفة الصالون كان يدور الحوار بين أبي والدكتور رشاد، كنا في صيف عام 1957م، في بيتنا في حي العمرانية، أجلس في مقعدي صامتة أتابع الحوار، لا أحد منهما يسألني الرأي، الحديث يدور بعيدا عني، كأنما أنا غير موجودة، لماذا يتلاشى وجود المرأة لمجرد وجود الزوج؟ لم يكن الدكتور رشاد زوجي بعد، كان عريسا يتقدم لأبي، يعني مجرد مشروع زوج فقط، لكنه استطاع أن يلغي وجودي، وأبي أيضا الذي دربني على الجدل والنقاش لم يحرك رأسه ناحيتي ليسألني رأيي في جمال عبد الناصر أو الدكتور رشاد نفسه!

Unknown page