ثم جاء يوم 23 يوليو 1952م، كنت في حصة المرور على عنبر الجراحة في مستشفى قصر العيني الجديد، الأستاذ قصير القامة نحيف الجسم، عيناه الواسعتان تطلان من وراء النظارة البيضاء تحت جبهة عريضة تصل إلى منتصف الرأس أو أكثر يسمونها الصلعة، صوته خافت، ملامحه خافته بلا جاذبية للعين أو الأذن إلا النحافة الشديدة أو الهزال، يشبه المهاتما غاندي زعيم الهند، الوجه الناحل والعينان الكبيرتان تطلان من تحت العدسات البيضاء الكبيرة.
كان يلقي علينا محاضرة طويلة عن سرطان المثانة، مريض راقد فوق السرير، عظام وجهه بارزة من شدة الهزال، أكثر هزالا من غاندي، يلتف حوله الطلبة يتنافسون على فحصه، خراطيم سماعتهم ممدودة نحو الجسد النحيل، تتلوى وتتعارك فوقه كخراطيم الذباب من حول قطعة لحم، رائحة الدم والصديد العفن تبعثان على الغثيان، أقف في الصفوف الخلفية مكتوفة الأيدي، أتلفت حولي في العنبر الواسع ، وجوه المرضى الناحلة الشاحبة تطل من فوق السراير، فلاحون فقراء كلهم، جاءوا من قرى تشبه قريتي كفر طحلة، دودة البلهارسيا تمص دماءهم، لا يبقى منهم إلا القليل يمصه الأطباء الكبار في العيادات الخاصة، ثم ينتهي بهم المطاف فوق السرير في قصر العيني، تقضي عليهم أصابع الطلبة في حصص التدريب، يخرجون من المستشفى إلى المشرحة، أو يحملهم النعش إلى القبر، تولول من خلفهم النسوة بالجلاليب السود.
بعد انتهاء الحصة خرجنا من العنبر، كانت معي الزميلتان بطة وصفية، خرجنا إلى الممر الطويل، له نوافذ كبيرة تكشف النيل، التراب يغطي النوافذ والزجاج مكسور، أتوقف لحظة لأستنشق الهواء النقي، أغسل الرئتين من أدران المرض والجراثيم، تتعلق عيناي بالأفق، أشعة الشمس تتموج فوق مياه النيل، سبائك من الذهب، قلبي يئن رغم الطبيعة المملوءة جمالا وفرحا، كأنما الحزن لا يظهر إلا بجوار الفرح، لا أعرف لماذا يغمرني الحزن دائما في لحظة الفرح، أهو الحزن المتراكم منذ ولدت؟ أم هذه الآلام التي تحوطني كل صباح في عنابر المرضي؟ أم هو غياب أحمد عن الكلية؟ لم أكن أعرف أين هو، في السجن مع المعتقلين؟ أو جثة مقتولة على شط ترعة الإسماعيلية؟ أو داخل مغارة في جبل اللاهون؟
فجأة رأيت المرضى يندفعون خارج العنابر يهتفون: تحيا الثورة، كان الراديو قد أذاع الخبر، استولى الجيش على الحكم في مصر وانتهى عصر الملك فاروق، سمعوا الخبر وهم راقدون فنهضوا من المرض، كأنما هي وجوه الجثث في المشرحة، نهضت من الموت، أصبحت تتحرك وتمشي، تفتح أفواهها عن آخرها وتهتف: تحيا الثورة، شاب مبتور الساقين في الحرب قفز من فراشه بدون ساقين بدون العكازين، كان يهتف تحيا الثورة.
من عنابر الرجال انطلق الهتافات، من عنابر النساء انطلقت الزغاريد، اندفع الجميع إلى الخارج، المرضى والمريضات بالجلاليب الدمور والشباشب، الممرضات والتمورجية بالمرايل البيضاء والصنادل، أطباء الامتياز والنواب بالمعاطف والسماعات حول الأعناق، الطلبة والطالبات وتلميذات التمريض وعمال المراحيض والمطبخ والمغسل والمشرحة، جميعهم اندفعوا إلى الشارع يهتفون: تحيا الثورة.
أصبح جسدي يندفع معهم وصوتي يهتف مع أصواتهم ، صفية أيضا رأيتها تجري معنا وتهتف: تحيا الثورة، بطة فوق كعبها العالي الرفيع يطرقع مع صوتها الجاد تصيح: تحيا الثوغة (الثورة)، توقفت جنازة ميت خارج من المستشفى، وضع الرجال النعش فوق الرصيف وانطلقوا مع الناس يهتفون: تحيا الثورة، تحولت ولولة النسوة الثكالى إلى زغاريد.
في تلك اللحظة كنت أبحث عن أحمد حلمي، أبحث عن وجهه بين الوجوه، أريد أن شاركه الفرح، كان مقبلا من فوق الكوبري الصغير بين المستشفيين القديم والجديد، خرج من المخبأ في جبل اللاهون، كانت الثورة هي الأمل الجديد، لأول مرة في حياتنا نتعانق بالأذرع، اكتشفنا أن لنا أذرعا يمكن لها العناق، لم يكن لنا إلا الأيدي في المصافحة، بعد الزواج والمشاركة في الفراش لم يكن جسدي يهتز كما كان يهتز في المصافحة، لم أعرف لماذا، أهو الخيال الجامح في الحب يضاعف المشاعر، أم أن «الجنس» مخيب للآمال مثل العمل الفدائي؟
في العناق الأول أحسست أن أحمد ليس هو أحمد، لم أعرف ذلك بعقلي، عرفته بالأعمق، بالأصدق، بإحساس الجسد الفطري لم تلوثه العلوم، شيء فيه راح لم يعد، شيء فيه تركه على شط الإسماعيلية وعاد وحده، أهو قلبه تركه هناك وعاد بلا قلب؟! إلا أننا نسير إلى شجرة الكافور، نتحسس حروف اسمه واسمي داخل القلب المحفور، نتحسس الخاتم الذهبي في أصبعه وأصبعي منقوشا عليه اسمي واسمه، الشيء المادي الوحيد في عالم من الهيولة والضباب، نمسكه بأصابعنا، نتشبث به كالغريق يتشبث بقارب نجاة أو الأعمى يبحث في الظلمة عن خيط من ضوء.
في 26 يوليو اعتلى الملك فاروق اليخت الملكي لآخر مرة في حياته، كان واقفا داخل بدلته البحرية البيضاء، فوق بحر الإسكندرية، سبحت فيه وأنا طفلة، صوت أبي في الفرندة البحرية يهتف: يسقط الملك، سقط الملك وتشكل مجلس وصاية على ابنه الطفل أحمد فؤاد، ورث اسم جده، كنت في الخامسة من العمر حين مات الملك فؤاد عام 1936م، جاء الصبي الصغير فاروق من بريطانيا ليرث عرش أبيه، الهتافات في شوارع الإسكندرية تدوي، مات الملك يحيا الملك، الراديو يغني : ملك البلاد يا زين يا فاروق يا نور العين، يطل الغلام الملك على الناس بوجه أبيض مستدير، وجه طفل أصبح ملكا فجأة، لا يعرف شيئا عن دهاليز السياسة، حوطته القوى الثلاث كالسلسلة الحديدية، القصر والإنجليز والأزهر، ثلاثة رجال هم أركان الحكم، أحمد حسنين، علي ماهر، الشيخ المراغي، كان أبي يسميه الشيخ المرائي (بدل المراغي) أو الشيخ الأزعر (بدل الأزهر).
كيف تحول الطفل إلى ملك مثل أبيه؟ إلى قاتل وعربيد كأبيه؟ واقفا في اليخت يلقي على مصر النظرة الأخيرة، ملؤها الحزن أو الندم، ربما كان الأفضل له ألا يكون ابن ملك، كنت أسمع الناس في قريتي يقولون: «السلطان من ابتعد عن السلطان.» أهناك مرض في السلطان يشبه السرطان ؟! يأكل الخلايا السليمة، ينمو بشراهة وجنون حتى يأكل ذاته، بلغ به النمو السرطاني أن يسعى لتناول التاج من يد الله ويكون خليفة المسلمين.
Unknown page