ثم وضعت أمي أمامي صحن مرق الدجاج ساخنا يتصاعد منه البخار، والنكهة تسربت من البخار إلى الصدر والرئتين، والقلب والمعدة ثم صعدت إلى خلايا المخ، حيث كانت الكلمات المقدسة لا تزال تروح وتجيء محدثة رنينها البراق، الذي بدأ يجف ويشحب إلى جوار نكهة مرق الدجاج.
بعد تناول الطعام ثقلت جفوني بالنوم، ثم تذكرت الرسالة المطوية في اللحظة الساقطة بين اليقظة والغيبوبة، في هذه اللحظة تصحو الذاكرة لا أعرف كيف، عادت إلي أحداث اليوم كشريط سينما يعود إلى الوراء، رأيت عمران عبد الموجود زعيم الإخوان واقفا أمامي، يده اليمنى ممدودة نحوي تقبض على ورقة صغيرة مطوية، بأصابع نصف نائمة وأنا في السرير، نصف صفحة من ورق الكشاكيل المسطر: «قبل أن أسمعك في حفل تأبين الشهيد المنيسي كنت أؤمن بالله والوطن ونفسي، لكن الآن أصبحت أومن بك قبل نفسي.»
بدت الرسالة بريئة لوجه الله والوطن، أعطيتها لأبي ولأمي، كنت أزهو بها، ها هو مخلوق يؤمن بي بعد الله والوطن مباشرة، كأنما صعدت إلى درجة واحدة عالية، في مستوى الله والوطن أو بعدهما بدرجة واحدة أو نصف درجة، مع ذلك لم يخفق قلبي له خفقة واحدة، كنت ألتقي به أحيانا في فناء الكلية، يصافحني بتلك اليد الصغيرة القبضة الطرية، يكلمني وعيناه شاخصتان إلى الفراغ، تخرج قبلي بعامين أو ثلاثة، أصبح طبيبا لأمراض النساء، بعد انفصالي عن أحمد تقدم لي، لم أتصوره زوجا، لم أتصور يده الصغيرة القبضة الطرية تلامسني، وإن تصورتها تسري في جسدي قشعريرة، كأنما هي يد حيوان مائي ذو ذنب قرموط من السمك، ثم مضت عشرون سنة قبل أن أراه على شاشة التليفزيون، أصبح في عهد السادات داعية إسلاميا كبيرا، سافر إلى أرض الحجاز أو السعودية وعاد محملا بالذهب والفضة، اشترى قصرا كبيرا في مصر الجديدة، وجامعا في مصر القديمة، ثم مضت عشرون سنة أخرى قبل أن ألتقي به في زيورخ في المؤتمر الدولي للأديان، قدم بحثا طويلا عن الإسلام والديمقراطية، بعد أن ألقيت كلمتي جاء إلي وصافحني، يده لم تتغير منذ أربعين عاما، قبضة صغيرة طرية ندية بالعرق، وجهه تغير كثيرا، أصبح شاحبا متهدل العضلات، شعر رأسه سقط، نما الشعر فوق وجهه وذقنه، طالت لحيته حتى لامست صدره، يقف على المنصة بالطريقة نفسها منذ كان طالبا بالكلية، يميل بجذعه ناحية اليمين، يده اليسرى في جيبه، يده اليمنى تتحرك في الهواء، يتوقف صامتا عن الكلام لحظة أو بضع لحظات، شاخصا في الفراغ كأنما عدسة سحرية في السماء تلتقط له صورة.
عاد أحمد من القنال إلى الكلية، عاد شخصا آخر يخفي عينيه وراء نظارة سوداء داكنة، وجهه أصبح طويلا شاحبا، متهدل الملامح منكسرا كالأسد الجريح، كانت هزيمة مفجعة له ولكل الفدائيين، الشتاء كان باردا مليئا بالغيوم، ريح باردة قادمة من الشمال تضرب رءوس الأشجار، النسوة بالجلاليب السود يولولن وراء الميت، ملاعب الكلية مهجورة والبوفيه مغلق، عم محمود مريض في بيته، على الدكة الخشبية في ملعب التنس نجلس، الحزن يغلف الكون، سحابة سوداء تحجب الشمس، يصمت أحمد طويلا شاردا، يدوي الصمت في أذني مثل صفارة وابور الطحين في منوف، جرس الترام يصلصل في شارع قصر العيني مثل صراخ النسوة، صوت الأذان من فوق مئذنة الجامع يتصاعد داخل السحب، قطرات المطر تبلل الدكة الخشبية، أتحسسها بيدي أمسحها بمنديلي الأبيض، حول إصبعي يلتف خاتم الخطوبة من الذهب، محفورا عليه اسم أحمد حلمي، يشع ضوءا رفيعا نحيلا في كون مظلم، ناعم حول إصبعي كالخيط الحريري، له كثافة مادية في عالم من الخيال، رفيع كالشعرة له متانة الذهب يربطنا معا حتى الموت.
الهزيمة كالموت، لم يكن ينسى الهزيمة، الدم المراق على أرض القنال، صوته يسري في أذني رغم مرور أكثر من أربعين عاما: «تصوري يا نوال إحنا الفدائيين اللي كنا بنحارب الإنجليز في القنال أصبحنا مطاردين من البوليس مثل المجرمين!»
هذه العبارة محفورة في ذاكرتي، سمعتها لأول مرة في حياتي من أحمد حلمي في أول الشتاء بعد حريق القاهرة في 26 يناير 1952م، وسمعتها للمرة الثانية في نهاية عام 1956م بعد الاعتداء الثلاثي على مصر وتطوع الأطباء في جبهة القتال من بورسعيد إلى الإسماعيلية والسويس، وسمعتها للمرة الثالثة بعد حرب 6 أكتوبر 1973م، في كل أزمة يمر بها الوطن ويهب الشباب للتطوع والفداء تحدث المأساة؛ يتحول الفدائيون من أبطال وطنيين إلى مطاردين من البوليس، يدخلون السجون أو يهربون أو يهاجرون، إلا من يستسلم منهم ويدخل حظيرة الحكومة أو السلطة الحاكمة كما تدخل الزوجة إلى بيت الطاعة. •••
في هذا المنفى البعيد وراء البحر والمحيط، وعلى بعد أكثر من أربعين عاما، يعود إلي الصوت يحكي قصة الشاب الفدائي في نهاية 1951م وبداية 1952م قبل حريق القاهرة، صوت أحمد المنيسي وغيره من الشهداء، الجنود المجهولون في التاريخ، وهم أجدر بأن يعرفهم الناس، أن يحفظوا أسماءهم ويعرفوا قصصهم أكثر من قصص الملوك والحكام أو رؤساء الدول والحكومات، الذين يتربعون على العرش في الدنيا والتاريخ، في القصور فوق الأرض وفي جنة الخلد، الفدائيون يموتون وتضيع أسماؤهم وحكاياتهم، ألهذا السبب كرهت حصص التاريخ في المدرسة؟! فضلت تشريح الصراصير والضفادع على قراءة حياة الملوك وغزواتهم.
من هذه المسافة البعيدة عن الوطن، يعود إلي صوته رغم انقضاء أربعة وأربعين عاما، يحكي الحكاية كما حدثت على أرض القنال، حيث ترك كلية الطب ولقب «دكتور» ليحمل لقب «فدائي»:
بعد إلغاء المعاهدة في أكتوبر 1951م أصبح الكفاح المسلح واجبا وطنيا، قرأت في مجلة روز اليوسف مقالات لإحسان عبد القدوس يدعو الشباب للتطوع للعمل الفدائي لطرد الإنجليز من قناة السويس، ذهبت إلى إحسان عبد القدوس في مكتبه بالمجلة ومعي مجموعة من اثني عشر طالبا جامعيا يريدون التطوع، أرسلنا إحسان عبد القدوس لعزيز المصري، كانت له ميول ألمانية من أيام الحرب العالمية ويكره الإنجليز، كان عزيز المصري حذرا لم يمنحنا الثقة في أول لقاء، كانت الحكومة المصرية ترسل إليه جواسيس الحكومة أو الملك، قابلنا عزيز المصري عدة مرات حتى تأكد أننا لا نعرف شيئا عن البوليس السياسي وليس لنا صلة بجواسيس الحكومة أو الملك، أرسلنا عزيز المصري إلى وجيه أباظة، تدربنا على السلاح في قشلاقات العباسية، وصل عددنا حوالي ثلاثين فدائيا، قابلنا أشخاصا آخرين مع وجيه أباظة، منهم أنور السادات ومجدي حسنين، تدربنا على الدبابات، إحكام التصويب، الضرب بالدشم، أصبحنا كتيبة فدائية مستعدة للسفر للقنال، المسئول العسكري عنا كان اسمه بهاء، المسئول الإداري كان اسمه سعد زغلول فؤاد، من أفراد كتيبتنا عزت المصري من الفيوم، عباس الأعسر من الشرقية، وسمير رضا كان عمره ثمانية عشر عاما، وزميل آخر اسمه رزق، وآخرون نسيت أسماءهم، استلم كل منا سلاحه، حملت مدفعا رشاشا من نوع «تومي جان» يضرب رصاص 9 ميللي، زملائي الآخرون حملوا رشاشات «ستين» وقنابل ضد الدبابات «بريجا» وقنابل يدوية وبنادق، أول عملية خرجت فيها كانت في منطقة بالقرب من التل الكبير اسمها المحجر، منطقة غنية بالفحم تحوطها حراسة إنجليزية مشددة، كانت الخطة تهدف لتفجير معسكر الإنجليز في المحجر والعودة بأسرى أحياء منهم، تلقينا أوامر كالآتي: الزحف على بطوننا مسافة نصف كيلو متر بين التل الكبير والمحجر، فوهة السلاح تكون إلى أعلى بعيدة عن التراب، نتخذ الكمين في بطن الترعة عند الكوبري الصغير، ننتظر حتى يبدأ بهاء رئيس الفرقة الإشارة، وهي إلقاء قنبلة على فرقة الحراسة الإنجليزية، بعدها نبدأ إطلاق النار وتنفيذ الخطة، إلا أن كل هذا لم يحدث، فوجئنا بسماع صوت فرقعة غير متوقعة، وبدأ كشاف ضخم يدور مثل قرص الشمس وفوقه شيء أشبه بالبرج، تحول الليل فجأة إلى نهار من شدة الضوء، يدور مع الكشاف رشاش يضرب علينا رصاصا قبل أن نطلق نحن النار، كان شيئا مفاجئا لنا، لس عندنا علم بوجود هذا الكشاف، وليس عندنا أوامر كيف نتصرف معه، لكن الفدائي المتعلم في الجامعة غير الجندي العادي؛ ولهذا تصرفنا على مسئوليتنا، كان إلى جواري في الكمين سمير رضا، ضربنا النار فورا في عين الكشاف ذاته، لم يكن أمامنا شيء آخر نفعله لإنقاذ حياتنا، شعار الفدائي (اضرب واجر)، لا تسمح لهم أن يقتلوك أو يأخذوك أسيرا ... اكتفينا بتحطيم الكشاف وانسحبنا دون تحقيق الهدف الأول من العملية، رجعنا زاحفين على بطوننا نشعر بفشل العملية، بعد يومين قمنا بعملية ناجحة عوضنا بها الفشل، كانت العملية على طريق المعاهدة الذي يصل إلى الإسماعيلية، عرفنا أن سيارة محملة بالذخيرة في طريقها للقوات الإنجليزية في الإسماعيلية، رابطنا على الضفة الأخرى من ترعة الإسماعيلية، كنا خمسة من الفدائيين، لمحنا سيارة الذخيرة قادمة على الطريق، أمامها عربة عسكرية واثنان من الموتوسيكلات، انتظرنا حتى أصبحت أمامنا فضربنا النار، انفجرت السيارة وانسحبنا دون خسائر في الأرواح أو السلاح، تشجعنا وفجرنا سيارة أخرى كانت تقل القائد الإنجليزي لمنطقة الشرق الأوسط، ضربنا السيارة ونجحت العملية، لكن قائدها بهاء أصيب في قدمه برصاصة ورجع بدون سلاحه، لم نفرح للأسف بهذه العملية، فقد مات زميل لنا دون داع، اسمه عباس الأعسر كان معي في مجموعتي، وكنا نسكن في بيت ريفي من الطوب النيء مثل معظم البيوت في القرى الفقيرة، بدأ أحدنا اسمه رزق ينظف سلاحه، تومي جاك 9 ميللي، فجأة انطلقت رصاصة من مدفعه وهو ينظفه واخترقت جدار الصالة حيث كنا نجلس، ثم انطلقت إلى الجدار الثاني للغرفة الداخلية اخترقته ونفذت إلى الحائط الثالث للغرفة الأخرى حيث كان يجلس عباس الأعسر مسندا رأسه إلى الحائط، دخلت الرصاصة إلى رأسه وخرجت من الناحية الأخرى، شيء أغرب من الخيال، كان قائدنا بهاء غير موجود، وكنت أتولى القيادة في غيابه، سمعت الطلقة وجريت لأتبين ماذا حدث في الغرفة، داخل الغرفة الداخلية رأيت عباس الأعسر في غيبوبة كاملة، طلبنا الإسعاف لكنه مات داخل سيارة الإسعاف، في الليلة السابقة كان معنا عباس الأعسر حين نجحنا في تفجير سيارة القائد العام الإنجليزي وعدنا جميعا سالمين، فكيف نفقد زميلنا عباس الأعسر في البيت بهذا الشكل العبثي لمجرد أن رزق كان ينظف سلاحه؟ أصاب الغضب الشديد أفراد الكتيبة وصمموا على عقاب رزق بالطرد، كان علي أن أنفذ هذا القرار بصفتي القائد، كنت أعرف أن رزق تسبب في موت عباس دون قصد، إن الرصاصة اخترقت ثلاثة جدران لتدخل في رأس عباس، مهزلة أو سخرية القضاء والقدر، إلا أن الخبر وصل إلى القاهرة، في اليوم التالي جاء وجيه أباظة ومعه والد سمير رضا، هكذا فقدنا سمير أيضا، أخذه أبوه معه إلى القاهرة، قال له إن أمه أصابها مرض القلب من شدة القلق عليه، انخفضت الروح المعنوية بعد فقدان عباس الأعسر وسمير، لكننا واصلنا العمليات الفدائية، أحد أغنياء الصعيد اسمه لملوم عبد الرحمن لملوم كان يمدنا بالذخيرة والسلاح، له أرض في الفيوم استطاع فيما بعد أن يحمينا من البوليس والحكومة، ثم تلقينا الأوامر بتغيير محل إقامتنا فورا، لقد كشف الإنجليز مواقع الفدائيين ويستعدون لحركة تمشيط واسعة، حملنا سلاحنا وسرنا في الصحراء لا نعرف إلى أين، لم تأت إلي أي أوامر عن المكان الأمين الذي نتجه إليه، سرنا في الصحراء ثلاثة أيام ولياليها هي أيام التيه الأعظم كما سميناها، فقدنا الطريق وأشرفنا على الموت من شدة العطش، قابلنا قافلة من البدو الرحل أنقذونا، بحثنا عن موقع جديد نمارس منه العمل الفدائي، كان هناك رجل وطني اسمه عبد الحميد صادق، كان يورد العمال المصريين للجيش الإنجليزي، لكنه انضم إلى العمل الفدائي وأصبح يشجع العمال على سرقة الأسلحة من الإنجليز وإعطائها لنا، تشجعنا وتحسنت حالتنا المعنوية، تزايد عددنا بوصول كتائب جديدة من الإخوان المسلمين والشيوعيين وبعض الشباب من حزب الوفد، استمرت عملياتنا ضد الإنجليز حتى يوم 26 يناير 1952م يوم حريق القاهرة، دبر الإنجليز الحريق للقضاء على العمل الفدائي، هل استخدموا حزب مصر الفتاة أو أحمد حسين؟ هل دخل فيها أعوان وجواسيس الملك؟ لماذا تخلت حكومة الوفد عنا تماما بعد أن كانت تشجعنا؟ وزير الداخلية فؤاد سراج الدين لماذا لم يؤمن مدينة القاهرة؟ كان عنده من رجال البوليس ما يكفي تأمين جبهة القتال في مدن القنال أيضا، لكنه ترك القاهرة تحترق، وأصبحنا نحن الفدائيين بلا حماية، جاءتنا أوامر غريبة من وجيه أباظة تقول: كل مجموعة تدافع عن نفسها وتحمي نفسها لا تحاولوا الاتصال بنا أو الحكومة، أصبح ظهرنا مكشوفا وقائدنا بهاء عاد إلى القاهرة وحده، عرفنا أنه في البوليس السياسي، أصبحنا وحدنا في مواجهة الإنجليز، اختبأنا في منطقة اسمها العباسة، سلاحنا فوق أكتافنا، لا يمكن لمن حمل السلاح أن يتنازل عنه بسهولة، قررنا الاستمرار في العمل الفدائي بدون معونة الحكومة، كان معنا الأهالي والفلاحين والبدو، لكن الناس بدأت تخاف بعد حريق القاهرة، والفلاحون والبدو جاءتهم أوامر من البوليس بعدم حماية الفدائيين، بدأ شعور الأهالي يتغير نحونا، والخوف يتزايد ويمنعهم من حمايتنا، هكذا أصبحنا معزولين تماما بلا سند من أحد، بدأ الإنجليز حركة تمشيط للقضاء علينا، كدنا نسقط أسرى في يد نقطة تفتيش إنجليزية، استطاع زميلنا الذي كان يقود سيارتنا واسمه إسماعيل رضا أن ينقذنا، فقد لمح على بعد 10 أمتار منه مدفعا رشاشا ونقطة تفتيش إنجليزية، رجع إسماعيل بظهر السيارة حوالي ثلاثة كيلو مترات، يمكن لو أطلقوا النار أن يصيبونا جميعا لكنهم لم يطلقوا النار، ربما أرادونا أحياء وليس أمواتا، أو ربما كانت لديهم أوامر ألا يطلقوا النار إلا للضرورة حتى لا يثيروا الأهالي ضدهم، كان غضب الأهالي قد تزايد بعد حريق القاهرة، إلا أن الخوف كان أشد من الغضب، وأخيرا اجتمعنا وقررنا إنهاء العمل الفدائي والعودة إلى القاهرة، حيث وجدنا حكومة جديدة، والأوامر باعتقال الفدائيين وتسليم سلاحنا للبوليس، اختفينا في الفيوم داخل مغارة في منطقة أثرية اسمها هرم اللاهون، حاولنا الاتصال بوجيه أباظة دون جدوى، عزيز المصري اختفى، بهاء عاد إلى البوليس السياسي، اكتشفنا غلطة عمرنا، وهي أن العمل الفدائي يبدأ في الداخل، ضد العدو الداخلي، ثم يتفرغ للعدو الخارجي؛ لأن العدو الداخلي يمكن أن يضربنا في الظهر وفي البطن ويقضي علينا تماما، كما حدث، وأصبحنا في نظر الحكومة مطاردين مثل قطاع الطرق، نرقد في مغارة في جبل اللاهون، يتسلل واحد منا في الظلام ليجلب لنا بعض الطعام، دفنا سلاحنا في بطن الأرض، وقلنا لا يمكن أن نسلمه لحكومة خائنة، كنت أنام وأحلم أني أحارب الإنجليز، في اليقظة أستعيد ذكريات القنال، في يوم خرجنا في إحدى العمليات الناجحة، فجرنا معسكر الإنجليز وعدنا إلى البيت سالمين، لكن اكتشفت أن زميلا لنا غير موجود، كان الواجب أن أخرج إلى الطريق وأبحث عنه حتى أجده وإلا عثر عليه الإنجليز أسيرا، وعن طريق تعذيبه يكشفون مواقعنا، مشيت في الليل وحدي بدون المجموعة أبحث عن زميلنا، كان الفجر لم يطلع بعد وأنا أزحف الطريق كله عائدا حيث كنا، نصف جسمي كان في الأرض والنصف الآخر في الطين ومياه الترعة، أخفي سلاحي في صدري أحميه من التلوث، سلاحي كان أغلى من جسدي، مدفع رشاش تومي جام 9 ميللي، أخيرا عثرت على زميلنا، كان غارقا في النوم في بطن ترعة الإسماعيلية وسلاحه نائم فوق صدره يحوطه بذراعيه كالأم تحتضن طفلها، جلست إلى جواره أتأمله وهو نائم يحلم بتحرير الوطن، عمره كان عشرين عاما مثل عمري وكل الفدائيين، لم يكن يدور بخيالنا أننا كنا فريسة بين الحكومة والملك والإنجليز، وان قيادتنا التي سلمناها حياتنا مثل بهاء ووجيه أباظة وعزيز المصري وأنور السادات ومجدي حسنين، هؤلاء جميعا تركونا وحدنا نواجه مصيرنا تحت رصاص الإنجليز أو مغارات جبل اللاهون، وجميعهم حصلوا على مناصب عالية في الدولة ودخلوا التاريخ على أنهم الأبطال الذين طردوا الإنجليز وقاموا بالثورة، أما نحن الذين حملنا السلاح وحاربنا فقد أصبحنا مطاردين مثل المجرمين. •••
قبل حريق القاهرة انتقلت من مرحلة المشرحة في الكلية إلى مرحلة المستشفى، نقوم نحن الطلبة والطالبات بالمرور على عنابر المرضى نتدرب على الفحص وتشخيص الأمراض، بعد الحريق في 26 يناير 1952م أصدر الملك فاروق قرارا بإقالة النحاس وحكومة الوفد، بدأت الحكومة الجديدة في ضرب الحركة الوطنية والعمل الفدائي، امتلأت الزنازين بالشباب الوطني من مختلف الاتجاهات، الإخوان المسلمين، الشيوعيين، الوفديين، الشباب من اتحاد العمال والنقابات والطلاب المستقلين والفدائيين العائدين من القنال، ثم إعلان قانون الطوارئ، صدر قرار بحل اتحاد العمال، غرقت مدينة القاهرة في الظلمة والصمت، رائحة الدخان تفوح من الجدران السوداء المتفحمة في قلب المدينة.
Unknown page