153

Awraqi

أوراقي … حياتي (الجزء الأول)

Genres

أنهيت كلمتي وهبطت إلى مقعدي، صعد إلى المنصة بعدي واحد من زعماء الجامعة في كلية الحقوق، اسمه «حسن دوح»، كان يحمل لقب خطيب الجامعة، وقف وراء الميكروفون مطرقا صامتا، آلاف العيون مرفوعة نحوه، الأنفاس مكتومة، الصمت يدوي في الصوان كالصفير، انتظرنا ماذا يقول، كان مشهورا بالخطب السياسية النارية، لم يقل حسن دوح شيئا، عبارة واحدة قالها ثم ترك المنصة: «أيها الإخوان ليس عندي ما أقول بعد سماعي كلمة الزميلة نوال.»

في نهاية الحفل تجمع من حولي بعض الزملاء: «كلمتك كانت رائعة! الكلمة اللي خرجت من القلب ودخلت القلوب، أقصر كلمة وأحسن كلمة، خطيب الجامعة ما عرفش يقول حاجة بعدها!»

عيونهم ترمقني بإعجاب، تحملني عيونهم فوق الأعناق، كأنما أصبحت سعد زغلول باشا، والشهيد المنيسي هل نسوه؟! أينتهي الموتى بانتهاء حفلات التأبين؟ سرت من الصوان إلى محطة الأتوبيس أحمل حقيبة كتبي.

هذه الحقيبة حملها إلي المنيسي منذ أسابيع، رغم الحريق في المعمل صعد إليه وعاد يحملها إلي، فوق جلدها أرى بصمات أصابعه، غائرة في الجلد مثل الجرح، سوادها داكن بلون الموت، بلون تأنيب الضمير، لماذا لم يخفق له قلبي؟ هل ذهب إلى الحرب يأسا من الحب؟ الكون من حولي يبدو كالحلم، الناس تمشي في الشارع كالخيالات، الأتوبيس يأتي ويذهب إلى العدم، الطلبة يهرولون إلى الكلية كالأشباح، ينظرون في ساعاتهم بعيون جاحظة، يقبضون على حقائبهم تحت إبطهم، يقبضون على أرواحهم داخل أجسادهم، يقبضون على عقولهم داخل جماجمهم، يتدافعون من الأبواب، يدوسون على أقدام بعضهم بعضا، يتنافسون على جثث المشرحة، على المقاعد الأمامية في المدرج، الدرجات العليا في الامتحانات، يسرعون من الكلية إلى البيت ومن البيت إلى الكلية، يتخرجون أطباء، يفتحون العيادات، يشترون السيارات، العمارات، يتزوجون وينجبون ويموتون كما مات المنيسي، إلا أن المنيسي مثل الشهداء لا يموت، يعيش هناك في الدار الآخرة مع الأنبياء.

كنت واقفة عند محطة الأتوبيس أحمل حقيبتي، جاء الأتوبيس مزدحما لا محل لقدم، وقفت أكثر من ساعة أنتظر، العربات كلها محشورة بالبشر، أهو يوم القيامة حين يقوم الموتى أفواجا؟ في طفولتي لم أتصور الموتى ينهضون من القبر، أيمكن أن يكون هناك حياة أخرى غير هذه الدنيا؟! مات المنيسي وهو في العشرين من العمر، مر سريعا عبر العالم مثل طيف أو خيال، أتكون الحياة حلما قصيرا نصحو منه بعد الموت؟ بدت الحياة الدنيا خيالا والحياة الأخرى هي الحقيقة، كان عقلي يتلاشى مع المنيسي مرتين، مرة في الدنيا ومرة أخرى بعد الموت.

كان يوما طويلا حزينا، خرجت في الصباح دون فطور، أقبل الليل وأنا واقفة عند المحطة، أسند ظهري إلى العمود المرشوق في الأرض، أفقت على صوت ينادي اسمي: زميلة نوال. تعرفت على وجهه، عمران عبد الموجود زعيم الإخوان واقف أمامي بلحمه ودمه، بجسمه المربع داخل البدلة الضيقة، الصديري تتدلى منه سلسلة الساعة الفضية، يقف على الرصيف مائلا بجذعه ناحية اليمين، واضعا يده اليسرى في جنبه، يده اليمنى ممدودة نحوي تقبض على ورقة صغيرة مطوية، شفتاه الممتلئتان منفرجتان، يبتسم لقوة ما في السماء، وقف صامتا في هذا الوضع بضع ثوان دون أن ينظر إلي، عدسة سحرية في الفضاء تلتقط له صورة، ثم ناولني الورقة وهو يقول بصوت مرتبك قليلا: «الرسالة دي لك يا زميلة نوال.»

صعدت إلى الأتوبيس وسط الزحام، شققت طريقي بين الأجساد المنهوكة في العمل طول اليوم، العرق يفوح من الملابس القديمة المبقعة بالزيت، يقفون الجسد ملاصق للجسد، معلقون مثل شرائح السردين في العمود الحديدي في السقف، احتل جسدي بين أجسادهم مكانه، رغم الزحام لا أحد منهم يلتصق بي، وإن مال الأتوبيس فجأة يحرصون على عدم ملامستي، عيونهم مطرقة إلى الأرض، وجوههم شاحبة ممصوصة مثل أقاربي الفلاحين في كفر طحلة، إلا أنهم يحترمون المرأة أكثر من الأفندية أو البهوات ذوي البدل الإفرنجية، أهو احترام حقيقي أم مجرد خوف دفين نابع من الفقر؟!

هبطت في المحطة أول شارع الهرم، اجتزت الكوبري الصغير فوق ترعة الزمر، شارع الترعة مظلم بلا مصابيح، حي العمرانية يرقد في أول الليل كأنما منتصف الليل، لا أسمع إلا وقع قدمي على الأرض، سؤال يدور في عقلي، هل أفتح الحقيبة وأقرأ الرسالة المطوية؟ في أعماقي شيء يزهو، الأنوثة الكامنة منذ الطفولة كالعملاق النائم، كالمارد الراقد في سبات عميق، يصحو فجأة ويطل برأسه يفحص وجوه الرجال، يبحث عن وجه معين مصنوع من مادة الخيال، لا يشبه أحدا من الطلبة وخاصة ذلك الزعيم الإخواني، يده صغيرة، قبضة مملوءة باللحم، جسمه سمين بلا عظام مكبوس داخل البدلة، عيناه تنظران في الفراغ مملوءتين بالفراغ، ماذا كتب لي في الرسالة؟

كان أبي جالسا في الصالة وأمي تحضر لي العشاء، حكيت له عن حفل التأبين، سمعت صوت أمي من المطبخ تقول: مسكين المنيسي ضيع حياته على الفاضي، صمت أبي طويلا ثم قال: أبدا يا زينب مش على الفاضي، الإنجليز مش خايفين إلا من الفدائيين والنحاس باشا شرابة خرج!

أردت أن أسأل أبي: هل يبقى المنيسي خالدا في التاريخ؟ كلمة الخلود في عقلي مقدسة مثل كلمة الله، الوطن، التضحية، الفداء، التاريخ. الكلمات المقدسة أحفظها عن ظهر قلب، تروح وتجيء في رأسي وأنا جالسة إلى المائدة.

Unknown page