146

Awraqi

أوراقي … حياتي (الجزء الأول)

Genres

أصبحت لي مكتبي الصغيرة في غرفة نومي، إنها غرفتي وحدي لم تعد تشاركني فيها أختي الأصغر ليلى، منذ أدخلت جمجمة الميت إلى غرفتي، أخرجت أختي سريرها.

أول ما أسعدني حين بلغت العشرين من عمري من غرفتي الخاصة، حريتي، أحلم بها في طفولتي وأنا ألعب بالعرائس مع أختي، وفي سنين المدرسة الابتدائية والثانوية وفي مدرسة حلوان الداخلية، حنين إلى الحرية أشد من حنين إلى الحب، الحب عندي هو الحرية وإلا ماذا يكون الحب؟!

في خريف 1951م أدركت أنني أملك حريتي، في الصباح أفتح عيني فتغمرني سعادة مجهولة، أقفز من السرير بخفة العصافير، أندهش من خفة جسمي، أندهش لصوت رذاذ الماء ينهمر من الدش، أغتسل بفرحة طفولية، أحس الخفقات تحت ضلوعي، أغني لنفسي في الحمام: «عندما يأتي المساء ونجوم الليل تنثر، اسألوا الليل عن نجمي، متى نجمي يظهر.» علاقة خفية بين النجوم وخلجات القلب، لم تعد خفية بعد أن تجاوزت الستين من العمر، قرأت في علم الكون الجديد، التشابه في تكوين جسد النجم وجسد الإنسان.

أصبح لي لأول مرة في حياتي مكان خاص أغلق بابه علي، غرفة صغيرة تتسع لسريري «السفري» من الصاج، ومكتبة لها رفوف عليها كتبي، ومكتب صغير أجلس إليه والباب مغلق، أسجل في مفكرتي السرية ما أشاء، أشرب الشاي بالنعناع دون رقيب أتمدد فوق السرير وأشرد كما يحلو لي الشرود، أبحلق في الفراغ بالساعات دون أن يتهمني أحد بالجنون.

كانت غرفتي تطل على حديقة خلفية صغيرة، نخلة طويلة ممدودة نحو السماء، رأسها المنكوش بالزعف أو سباطات البلح يشبه رأسي، شعري الأسود الغزير يطيره الهواء، اشترى لي أبي مكتبا صغيرا من الخشب له ثلاثة أدراج ناحية اليمين، درجان ناحية اليسار، الدرج الأعلى له مفتاح واحد يغلق الأدراج كلها، فوق الحائط ثلاثة رفوف هي المكتبة، عليها كتب الطب، كشاكيل المحاضرات، ولوحة خشبية أرشق فيها الجدول والمواعيد، فوق الرف العلوي الكتب غير الطبية، روايات وقصص، فلسفة وتاريخ، وكتب أخرى أحصل عليها من المكتبات العامة.

من نافذتي الأمامية أطل على جزء من الشارع الصغير المتفرع من شارع ترعة الزمر بالعمرانية، الحي الهادئ في أول شارع الهرم بالجيزة، من نافذتي الخلفية أطل على منزل الجيران، يقف في الشرفة شاب ممتلئ الوجه أبيض البشرة يشبه الملك فاروق، يمسك في يده مرآة تعكس الضوء، يسلط علي دائرة الضوء المتحركة فأغلق الشيش من وراء شقوق الشيش أراه، يضع فوق عينيه منظارا مكبرا أو تلسكوب، أسد شقوق النافذة بورق الصحف القديمة.

فوق مكتبي الجمجمة، أجلس إلى المكتب لأذاكر دروسي، أقرأ، أكتب، أفتح النافذة الأمامية ، وجهي ناحية السماء، لا بد أن أرى الأفق حين أكتب، تشرد عيناي في المساحات الواسعة اللانهائية، لا حواجز أمامي في مجال الرؤية.

كانت الجمجمة تؤنسني، تذكرني بالموت فيشتد إحساسي بالحياة، تملؤني بالفرح لأنني أعيش رغم وجود الموت، إلى جوار الجمجمة مروحة كهربية صغيرة، تحدث صوتا خافتا حين تدور، كحفيف الهمس، تؤنسني تحمي وحدتي.

يكفي أن أغلق بابي لتغمرني السعادة، لم يكن أحد في البيت يقلقني في نومي أو يقظتي، أقرأ في سريري حتى الفجر، أحبس نفسي في غرفتي لأكتب يومين أو ثلاثة، أرتدي ملابسي وأخرج ، لم يعد أحد يسألني إلى أين أذهب أو متى أعود، الدراسة في كلية الطب تمتد طول النهار، والمظاهرات الوطنية قد تنفجر في أي وقت.

كنت أمشي في المظاهرات مع الطلبة، وأمشي كل يوم من بيتي في أول شارع الهرم إلى كلية الطب في شارع قصر العيني، وأعود مشيا أو أركب الترام إذا تأخر الوقت، أختار الأحذية بدون كعب عال، الأحذية الجلدية المتينة غير اللامعة، كل شيء لامع يبدو لي قبيحا، الشعر المدهون بالبريانتين، القماش الشاركسكن، الأحذية الجلاسيه، البشرة المدهونة بالكريم، الشوارب المنمقة المقصوصة بعناية، ربطة العنق المربوطة بدقة وإحكام، تجذبني الطبيعة التلقائية، وشيء من الفوضى الضرورية لإكمال أي نظام، شيء من القبح اللازم لأي جمال، لم أحب أدوات الزينة، لم ألون وجهي بالمساحيق، لم أصبع شفتي بالأحمر الصناعي، أرتدي الأقمشة الخشنة الرخيصة، تزيد خشونتها من نعومة بشرتي، لا أرتدي الفساتين المكشوفة الصدر، أصبحت أمتلك جسدي ولست في حاجة إلى عرضه للعيون، أرتدي أحيانا القمصان الرجالي، تزيد رجولتها من أنوثتي.

Unknown page