في إحدى الليالي كنت وحدي بالبيت، سافر شريف إلى قرية القضابة بجوار طنطا في مهمة ضرورية، جلست إلى المكتب أحاول كتابة الفصل الأخير من الرواية، الليل ساكن، لا أسمع إلا صوت أنفاسي، دقات الساعة الخافتة، الواحدة والنصف بعد منتصف الليل، ابنتنا منى انتقلت إلى بيتها، ابننا عاطف استقل بحياته، أصبحت لي غرفة مستقلة، أكتب فيها وأنام فيها بجوار أوراقي، أحب هذا الانعزال الكامل وحدي مع أفكاري.
فجأة دق جرس الباب، تجمدت في مقعدي، من يأتي في هذه الساعة من الليل؟ الضربات تحت ضلوعي تتصاعد، العرق يتصبب وأنا جالسة لا أريد النهوض، ربما أخطأ أحد الجيران وضغط بيده على الجرس، جاءت الدقة الثانية فانتفضت واقفة، أنوار الشقة كلها مطفأة، سرت على أطراف أصابعي، تحركت في الظلمة بلا صوت، من وراء شراعة الباب، لمحت خيالا أسود: استجمعت شجاعتي. - مين بره الباب؟!
لم يرد أحد، الصمت يدوي في أذني كصفير الطاحونة في منوف، عقلي يفكر وحده، هل أجري إلى المطبخ وأمسك السكين؟ لكن ماذا يفعل السكين في مواجهة مدفع رشاش؟ لو كان معي مسدس؟ ألهذا رفضوا التصريح لي بمسدس؟ لماذا لا يرد ويقف صامتا هكذا؟ إذا كان هو القاتل فكيف تركه الحارس يصعد؟ هل القتلة يدقون الأجراس؟ واقفة وسط الصالة داخل الظلمة مكتومة الأنفاس، مرت لحظة ممدودة بلا نهاية، رأيت الخيال يتحرك وراء الشراعة ويختفي، شيء غريب أغرب من الخيال، لماذا جاء ولماذا راح؟
عدت إلى غرفة النوم كي لا أنام، أطرافي باردة، الدقات تحت ضلوعي بطيئة شبه متوقفة، فتحت النافذة لأطل على الشارع، سأراه يخرج من باب العمارة، إن لم يخرج فلا بد أنه الحارس، مضت الدقائق، لم يخرج أحد، عشر دقائق، عشرون دقيقة، واقفة في النافذة كالتمثال، شارع مراد مظلم منطفئ الأنوار، لا أحد يتحرك، سيارات قليلة تمرق بسرعة الضوء، زئير الأسد يصلني من حديقة الحيوان مع رائحة المجاري، سيارة بوليس تنطلق بصفارة حادة، ساعة الجامعة تدق مرتين ثم تسكت، من بعيد يأتيني الصوت كالنشيج، امرأة تئن وحدها في الليل، لا أعرف من أين يأتي الأنين، أهي الجارة التي تسكن فوقي، أم في الشقة تحت شقتي أم في الشقة المجاورة التي تسكن فوقي، أم في الشقة تحت شقتي ناحية اليمين، أو المرأة الوحيدة في الشقة ناحية اليسار، الأنين يحمله هواء الصيف في المدينة الكبيرة، يسري في أذني كالطنين، يذكرني بأنين أمي في الليل ممدود يشبه النداء، يا ... نو ... ا ... ا ... ل ... ل، تناديني في الليل يا نوال، أدفن وجهي في وسادتي، يتحول بكائي إلى أنين يعلو على أنينها أو أنين المرأة الأخرى. - نوال، لازم تسافري! - أسافر فين يا شريف؟ - عندك صديقات في كل بلاد العالم ، إنت معروفة يا نوال؟ وأنا مستعد أسافر معاك.
بدأت أفكر في السفر، كيف أسافر؟ رحلاتي السابقة كان لها هدف، حضور مؤتمر، إلقاء محاضرة، لم أجرب من قبل السفر بلا هدف، أو للهروب من الموت، أيمكن أن يكون مصيري هو النفي خارج البلاد؟
ألا تحتمل أرض الوطن أن تمشي فوقها كاتبة مثلي؟! عشت تجربة السجن والطرد من العمل والمصادرة والمطاردة وتشويه السمعة، كل ذلك داخل الوطن، لم أعرف ماذا يكون المنفى.
ذات يوم دق الجرس، فتح شريف الباب، دخلت فتاة اسمها إليزابيث، جاءت إلى مصر في زيارة قصيرة، طالبة بجامعة ديوك في ولاية نورث كارولينا، درست بعض رواياتي المترجمة إلى الإنجليزية، أرادت أن تزورني قبل أن تغادر مصر، على باب العمارة رأت الحراسة المسلحة، صعد معها الحارس حتى باب الشقة، سألتني: ما الذي حدث؟ قلت بهدوء وأنا أبتسم: لا شيء حدث، فقط يحرسون حياتي. اندهشت الفتاة كيف أبتسم بهذا الهدوء. - لماذا لا تسافرين يا دكتور ساداوي؟ - وإلى أين أذهب؟ - إلى جامعة ديوك، هناك أستاذتي الدكتور ميريام كوك وهي تدرس رواياتك في حصة الأدب العربي، يمكن أن أطلبها بالتلفون غدا وأعطيها تليفونك، ما رأيك؟ •••
يوم 8 يناير 1993م، أودع بيتي في الجيزة، الشقة الصغيرة في شارع مراد، استأجرتها من صاحب العمارة في يناير 1960م، عشت فيها ثلاثة وثلاثين عاما، شريف يحزم الحقائب في الصالة، منذ تزوجنا لم تكف الحكومة عن مطاردتنا ثلاثين عاما، لم نبدأ عملا إلا هدموه، لم نضئ مصباحا إلا أطفئوه ، لم ننشئ جمعية إلا أغلقوها، لم نصدر مجلة إلا صادروها، ها هي المطاردة تصل إلى النفي خارج البلاد.
أدور على غرف الشقة أودعها، ابنتي منى واقفة في الصالة تحوطني بذراعيها: «مع السلامة يا ماما ... كلميني في التليفون أول ما توصلوا ديرهام.» ابني عاطف واقف إلى جوارها، يحوطني بذراعيه: «مع السلامة يا ماما، خلي بالك من نفسك.» منى وعاطف يعانقان شريف، العيون تلمع بالابتسام لتخفي الدموع الحبيسة.
شريف يحمل الحقائب خارج الباب، حركته هادئة تشبه حركة أبي، كنت في السابعة من العمر حين رأيته يحزم الحقائب بهذه الحركة الهادئة، أصدرت الحكومة قرارا بنفيه بعيدا عن المدينة، اشترك في مظاهرة وطنية ضد الملك والإنجليز، عاش المنفى عشر سنوات، من 1938م حتى عام 1948م.
Unknown page