في إحدى المرات سألته بطة قائلة: «انت شيوعي بسحيح (بصحيح) يا يسري؟!» تركزت عيناه اللامعتان في عينيها وقال: «أنا بسحيح اسمي يوسف مش يسري»، وضحكت الزميلات، وعرفنا أنه رئيس تحرير مجلة «الجميع»، واسمه يوسف إدريس، وقد أصبح هذا الاسم فيما بعد من الأسماء اللامعة بين الأدباء في مصر.
لم أكن أفهم ماذا تعني كلمة الشيوعية، هي والإلحاد والكفر والفساد والانحلال كانت مضمومة في أذهان الزميلات داخل سلسلة واحدة ... سامية كانت صديقتي الأولى الشيوعية، تجلس معنا في غرفة الطالبات صامتة، شفتاها لا تنفرجان عن ابتسامة، تنفجر البنات بالضحك وهي جادة رصينة لا تضحك، تحكي الزميلات عن قصص الحب، عن رسائل الغرام داخل الكشاكيل، تمط سامية شفتيها كما كانت تفعل في مدرسة حلوان وتقول: «الواقع يا بنات إن البلد في أزمة وانتم مشغولين بالكلام الفارغ!» لم تكن سامية تعترف بوجود شيء اسمه «الحب»، ده شغل عيال يا نوال ... دي رومانتيكية فاضية ... دي مراهقة طفولية برجوازية، اسمعي يا نوال، لازم أحكي لك عن «ماركس» شوية.
أول مرة أسمع فيها عن اسم «ماركس»، رن في أذني يشبه اسم «مركس» أو «مرقس» (حين تنطقه بطة)، الحبيب الأول لصفية وهي في حلوان الثانوية ... تصورت أن سامية قد وقعت (مثل صفية) في حب رجل قبطي، إلا أن سامية ضحكت، لأول مرة في حياتي أراها تضحك، وقالت: «ده شيوعي مش قبطي يا نوال»، «يا نهار أسود يا سامية، ده القبطي أحسن، على الأقل من أهل الكتاب، لكن الشيوعي ملحد وكافر.»
كانت هناك مجلة أخرى في الكلية اسمها «شعلة التحرير»، يصدرها طالب في سنة رابعة أو خامسة اسمه أحمد حلمي، لم يكن يدخل المشرحة أو يقترب من الطالبات، كان أحد زعماء الكلية، يتكلم في المناسبات الوطنية بصوت هادئ، ينصت إليه الطلبة باهتمام أكثر، يخفي عينيه وراء نظارة شمس، سمعنا أنه أحد الفدائيين في قناة السويس، يختلف عن الطلبة الآخرين في كل شيء، لا نراه في الكلية إلا نادرا، تحوطه هالة من الغموض.
كان لبعض الأساتذة في الكلية اهتمامات وأنشطة أخرى خارج الطب؛ منهم الدكتور «سعيد عبده» أستاذ الصحة العامة، كان يكتب في الصحف عمودا تحت عنوان «خدعوك فقالوا»، وكان يحب الأدب والشعر مثل الدكتور إبراهيم ناجي الذي مات قبل أن أتعرف عليه. أستاذ الكيمياء الحيوية «البيوكميستري» كان اسمه الدكتور «شفيق الريدي»، يحضر أحيانا الحفلات الثقافية والغنائية، يجلس في الصف الأول مع الأساتذة. أحد الطلبة كان يهوى الموسيقى والغناء اسمه «حسونة»، سمين مربع الجسم ، يعزف العود فوق المنصة، ويغني: «يا ريدي البس نضارة! خبي عينك السحارة! يا ريدي آه يا ريدي!»
كان للدكتور الريدي عينان مشهورتان في الكلية، لونهما أخضر أو أزرق، يكسوهما البريق ... تنجذب إليهما عيون الطلبة والطالبات، يتمشى كالطاووس في الفناء، يركب سيارته الطويلة الفاخرة، ترمقه عيون البنات من نوافذ المشرحة، تشهق بطة: «يختي عليه وعلى حلاوته» ... تردد الأخريات في نفس واحد: «قمر والله.» «يا أرض اتهدي ما عليكي أدي.»
لم أكن أنجذب إلى هذا النوع من الوسامة في الرجال، أواصل التشريح دون أن أرفع عيني نحو الفناء، تشد «بطة» المشرط من يدي وتقول: «بصي يا نوال متعي عينك قبل ما نموت ونبقى زي الجثة دي!» «هاتي المشرط يا بطة بلاش مسخرة والامتحان قرب.» «امتحان إيه وزفت إيه، أنا عاوزة عريس زي الريدي يا بلاش، بصي على العربية بتاعته! تجنن! دي كاديلاك دي ولا إيه يا نوال؟!» «أنا ماعرفش في العربيات، هاتي المشرط!» «أمال تعرفي في إيه يا فالحة؟! في المظاهرات وتحرير الوطن! أنا عاوزة أتجوز! يا ريدي آه يا ريدي.» وتنفجر البنات بالضحك المكتوم.
اسمها الحقيقي كاميليا، ينادونها بطة، وهي تشبه البطة، قصيرة سمينة مربعة الجسم، تتأرجح في مشيتها فوق الكعب العالي الرفيع، تكركر بالضحك بصوت الدواجن، صوتها يسرسع إذا ارتفع مثل الجرس، شفتاها ممتلئتان باللحم، تصبغهما بالروج الأحمر، يداها صغيرتان بضتان ناعمتان، أظافرها طويلة مدببة كالمخالب، مطلية باللون الأحمر.
لم تمسك بطة المشرط في يدها طوال العامين في المشرحة ... تخاف على أناملها الرقيقة من الفورمالين، كان من السوائل الحارقة، يشقق الجلد ويطفئ لمعة الأظافر، لم تقبل واحدة من الزميلات على الإمساك بالمشرط، يكتفين بالجلوس والفرجة على التشريح أو القراءة من كانينجهام مع النظر إلى صور الكتاب.
كان الدكتور البطراوي يمر علينا في المشرحة، له قامة طويلة فارعة تشبه قامة أبي، شعره أشيب، جبهته عريضة، لصوته بحة تنجذب إليها الأذن، يميل إلى الفكاهة والسخرية، يراني واقفة في يدي المشرط والزميلات جالسات حول المنضدة: «مافيش واحدة منكم عاوزة تمسك المشرط؟ طبعا خايفين على صوابعكم الناعمة! حتبقوا دكاترة إزاي يا هوانم؟!»
Unknown page