124

Awraqi

أوراقي … حياتي (الجزء الأول)

Genres

هنا يبلغ العشق ذروته، فينهض أبي ومعه أمي يختفيان داخل غرفة نومهما، من وراء الباب المغلق أسمع الهمسات مع طقطقات السرير النحاسي مع القهقهات والشهقات والزفرات كالنشيج والضحك في آن واحد. •••

أمام غرفة الطالبات كانت حديقة صغيرة جرداء إلا من شجرة كافور كبيرة، أجلس تحتها أشرب الشاي بالنعناع ... مبنى كلية الصيدلة ملاصق لنا، تأتي سامية وصفية، ونستعيد الذكريات القديمة، قد تشاركنا «بطة» وغيرها من زميلات الطب أو الصيدلة، نرشف الشاي بالنعناع أو القهوة باللبن ونحكي الحكايات. قصص الحب في المشرحة كانت أكثر منها في الصيدلة، الزملاء السينيور يقعون في غرام الطالبات الجونيور، من فوق الجثث تتلاقى العيون وتقفز القلوب ... تشتد الخفقات تحت الضلوع، يجتمع الحب والموت فوق منضدة واحدة كأنما هما توءمان، أمهما واحدة وأبوهما على طرفي نقيض، غريمان مجهولان متنافسان، لا شيء يجمعهما إلا تلك الأم الواحدة.

فوق منضدة التشريح تتقارب رءوس الزميلات، لا يكف الهمس والهسيس، الشهقات المتقطعة المكتومة والقفشات، بطة تحكي آخر نكتة، نموت من الضحك، الزملاء يموتون من الغيظ أو ربما الإعجاب، تأتي الرسائل داخل الكشاكيل أو بين طيات كتاب «كانينجهام»، رسائل معطرة بالحب والفورمالين، كان الزملاء يستعيرون كشاكيل المحاضرات من الزميلات، يقترب الزميل من الزميلة بخطوات متعثرة، خجول، والدم يتصاعد إلى وجهه كالعذراوات: «محاضرة الدكتور البطراوي فاتتني يا زميلة، يا ترى أقدر استلف الكشكول بتاعك؟!» «أيوة يا زميل.» «متشكر أوي يا زميلة.» ثم يأتي طالب آخر تقع عينه على واحدة أخرى من الزميلات: «أنا نسيت (كانينجهام) في البيت، يا ترى أقدر استلف كتابك يا دكتورة؟» «أيوة يا دكتور»، «متشكر خالص يا دكتورة.»

منذ دخلنا المشرحة ونحن نتبادل لقب دكتور ودكتورة والكشاكيل والكتب، ما إن يعود إلى الواحدة منا كتابها أو كشكولها حتى تخفيه تحت الجثة أو فوق ركبتها تحت المنضدة، تفتحه خلسة بعيدا عن العيون، تخفي الرسالة في جيبها أو حقيبتها، تخرجها من حين إلى حين تتشممها: «الله على ريحة الفورمالين يا زميلات!» تنطلق الشهقات المكتومة والقفشات، وتتأجج العيون بغريزة الاستطلاع.

أحد الزملاء السينيور كان يتردد على منضدتنا كثيرا، يمسك المشرط بين أطراف أصابعه مقلدا أستاذ التشريح، ويشرح لنا: «لا يا زميلة، انتي ماسكة المشرط غلط، مش كدة التشريح، هاتي أوريكي!» ... «لا يا دكتورة! مش كدة تمسكي الملقاط، ده ملقاط مشرحة مش حواجب لا مؤاخذة!»

تكتم البنات الضحك، يرمق الزميل السنيور بطرف عين تلك التي جاء من أجلها، يتفادى النظر إليها مباشرة كأنما هي غير موجودة ... إلا أننا كنا نعرف، فالحب وإن اختفى لا يختفي، وهو لا يكف عن الشرح لنا، لا يفارق منضدتنا، «خلاص فهمنا يا دكتور.» يحمل مشرطه ويعود إلى منضدته، تحوم عيناه من بعيد ... تدوران في المشرحة حول الوجوه، تستقر في النهاية عند منضدة الزميلات.

تلكزني بطة في كتفي: «شايفة الواد السينيور اللي هناك ده؟» «أيوة ماله؟» «عينه على البت صفية.» «حرام عليكي يا بطة، ده ولد طيب.» «قصدك أهبل.» «مش قصدي.» «على العموم الهبل هم اللي بيقعوا في الحب يا نوال، والطلبة الواعيين زي القرود، عينهم على خمسة عين!» «خمسة عين يعني إيه يا بطة؟» «يعني عيادة وعربية وعزبة وعمارة وعروسة.»

تشهق بطة بالضحك: «طبعا يا نوال، العروسة دي آخر حاجة، بعد ما يحوش الفلوس من العمارة والعيادة، يروح يخطبها من أبوها الباشا ويجوزها على طول، لا حب ولا يحزنون!» •••

عام 1951م انتقلت إلى سنة ثانية مشرحة بدون امتحانات، سيكون الامتحان الصعب آخر هذا العام، يشمل العلوم كلها التي درسناها في عامين اثنين ومنها التشريح، أكبر مدرج «علي باشا إبراهيم» يتسع لمئات الطلبة، نتلقى فيه المحاضرات وتعقد فيه الندوات والاجتماعات الكبيرة أو الاحتفالات. كنت أشارك الطلبة في هذه الأنشطة خارج نطاق الطب، أخرج معهم في المظاهرات، نهتف ضد الملك والإنجليز، في عيد الهجرة النبوية يدعوني زعيم الطلبة من الإخوان المسلمين لإلقاء كلمة، وفي الاحتفال بإلغاء معاهدة 36 يدعوني زعيم الطلبة الوفديين للمشاركة بإحدى الخطب ... في عيد العمال يأتي إلي زعيم الطلبة الشيوعيين ويطلب مني مقالا لمجلة اسمها «الجميع»، في الندوات الثقافية أو الفنية أتلقى الدعوة للمشاركة بقصة قصيرة أو قطعة أدبية.

كنت الطالبة الوحيدة في الكلية التي تلقي الخطب في المناسبات، وتكتب القصص والمقالات، كان طلبة الطب كغيرهم من طلاب الجامعة يصدرون المجلات، وكنت أحب الأدب والفن أكثر من الطب، لم أتوقف منذ المدرسة الثانوية عن كتابة القصص وتسجيل خواطري في مفكرتي السرية، في أحلامي لا أرى نفسي طبيبة، وإنما كاتبة أديبة، ترمقني الزميلات بنظرات ساخرة: «أديبة إيه وكلام فارغ إيه، هو الأدب في بلدنا يوكل عيش يا نوال؟!»

Unknown page