119

Awraqi

أوراقي … حياتي (الجزء الأول)

Genres

كانت جريدة الأهرام قد استقرت في سلة المهملات تحت مكتبي، أمسك المشرط في يدي، مزقت به صورة الملك والحروف تحتها: «الطاعة والولاء!»

في قاموس اللغة في مكتبة أبي بحثت عن أصل هاتين الكلمتين، يرجع أصلهما إلى عهد العبودية، العبودية تعني الوطنية والولاء والطاعة. وفي أول 1890م نشرت جريدة الأهرام بمناسبة عيد ميلاد الخديو هذه الكلمات: «فوق شغاف قلوب المصريين نقشت حروف الحب والطاعة والولاء، هذا الشعب المصري الوفي الأمين يشمله الفرح الكبير في عيد ميلاد الخديو العظيم، إن مداد العبودية والطاعة والولاء تخطه يد الإخلاص، وتنقشه على قلب كل مصري وطني.»

كلمة الحب تعني العبودية، وكلمة العبودية تعني الإخلاص والطاعة والولاء، ومنذ عام 1890م حتى عام 1948م سقطت كلمة العبودية من قاموس الصحافة المصرية، كانت قوة العبيد تتصاعد وتهدد الحكم من خلال الحركة الوطنية، إلا أن جريدة الأهرام ظلت تحافظ على ما تسميه الموروث وإن كان الروث. إنها أحد أعمدة الحكم في مصر، أداة من أدوات قهر الشعب والعبيد، لم يكن لكلمة الطاعة أو الولاء أن تزول من قاموسها وإلا زالت الجريدة ذاتها، وهي تتخذ من صورة الأهرامات شعارها المطبوع في الصفحة الأولى، الهرم الأكبر في الجيزة، والأحجار التي حملها العبيد فوق ظهورهم لبناء مقبرة فرعون تكاد تشبه كتل الأوراق يحملها الصبية فوق ظهورهم كل صباح وهم يصيحون: الأهرام! الأهرام! ... خطبة الرئيس! ... خطبة الرئيس!

عام 1949م دخلت مبنى كلية الطب في شارع قصر العيني، أصبحت في سنة أولى مشرحة، كلمة «مشرحة» ترن في أذني ساحرة، أكثر سحرا من رنين الساعة أو قبة الجامعة الضخمة، خيالي يسرح قبل أن أدخل من الباب.

أيمكن أن أشرح جسد إنسان، أن أفتح بالمشرط تلك العضلة تحت الضلوع لا تكف عن الخفقان؟! أو الخلايا داخل الرأس لا تكف عن التساؤل واستعادة الصور في طفولتي؟!

في السنة الإعدادية لم أشرح إلا الضفادع أو الصراصير أو الخنافس، في حياتي منذ ولدت لم تقع عيناي على إنسان ميت، قشعريرة تزحف إلى جسدي بمجرد سماع الكلمة، أرمق من بعيد باب المشرحة، الضربات تحت ضلوعي تتصاعد، أنفاسي تضطرب، أيمكن أن ألتقي بالعفاريت أو الأرواح وجها لوجه؟ رائحة نفاذة تنفذ إلى أنفي، أهذه هي رائحة الموت؟!

كانت رغبة الاستطلاع أشد من الخوف، دخلت بقدمي إلى المشرحة، دخلت معي صفية وبطة، المناضد الرخامية مرصوصة في القاعة الواسعة، فوق كل منضدة جثة حولها ثمانية من الطلبة، طلبة السنة الأولى يطلق عليهم اسم «الجونيور»، طلبة السنة الثانية اسمهم «السينيور ».

أصبحنا ثماني طالبات نجلس حول منضدة واحدة، واحد من الطلبة «السينيور» جاء ليشرح لنا، كان هو التقليد المتبع داخل المشرحة، الطلبة القدامى يساعدون الطلبة الجدد، يتنافس الطلبة الجدد فيما بينهم على مساعدة الطالبات.

كنا نرتدي المعاطف البيضاء داخل المشرحة، نجلس على كراسي بدون ظهر، أربعة منا حول الجزء الأعلى للجثة أو الرأس والعنق ... الأربعة الأخريات حول النصف الأسفل أو الساقين.

في ركن المشرحة بالقرب من الباب كانت صناديق خشبية كبرة مملوءة بالفورمالين، يحفظ الجثث من العفونة، قبور من الخشب قابعة في الركن بجوار الحائط، يسبح فيها الموتى، داخل السائل ذي الرائحة النفاذة، يحرسهم فراش المشرحة «عم عثمان»، عيناه ضيقتان تلعمان كعيني الصقر، أصابع يديه مشققة من طول ما غمسها في الفورمالين، بشرته محروقة، وجهه أسمر شاحب ممصوص يشبه وجوه الفلاحين في قريتي.

Unknown page