كلمة أبي «عندك موهبة» انحفرت في ذهني، مسحت الصفر الأحمر وتشطيبات المدرس، كنت أحب اللغة والحروف، لم أكره إلا مدرس اللغة والنحو والدين، هؤلاء يقتلون الموهبة في مهدها، أما الدين فلا شيء جعلني أكرهه مثل المدرسين، لم يكن يروقهم من كتاب الله إلا الآيات العسيرة على الفهم، الكلمات التي تتكور في الحلق، المعاني التي لا تناسب مرحلة العمر، والتفسيرات التي تزيد الأشياء غموضا، التهديدات بنار جهنم خالدين فيها، والتلويح بجنة أبرز ما فيها الجلوس على الأرائك. سألت المدرس مرة: أيكون في الجنة قلم لمن يريد أن يكتب وكشاكيل؟ انفجرت البنات في الضحك، وطردني المدرس من الحصة.
رغم كل شيء كنت أحب المدرسة، أكثر ما أحبه فيها هو العزلة، أدخل المكتبة لأقرأ وأكتب، كنت أحب أيضا اللعب والجري في الفناء مع البنات، نقفز الحبل ... نلعب الباسكت بول «كرة السلة» أو الفولي بول، إلا أن «التنس» كان لعبتي المفضلة، تشاركني في ذلك زميلة اسمها صفية، بيضاء مستديرة الوجه، عيناها خضراوان ، هي الوحيدة التي تلعب التنس من كل زميلاتي.
كنت أعشق حركة الجسم في الهواء الطلق تحت أشعة الشمس، أغني لنفسي وأنا أحرك ساقي، أكاد أطير في الجو، في غرفة الموسيقى أغني وأرقص مع البنات على اللحن الذي تعزفه فاطمة، تلميذة معنا في العنبر تهوى الموسيقى والغناء، تغني لأم كلثوم «هو صحيح الهوى غلاب»، و«افرح يا قلبي»، كان لصوتها بحة جميلة تهز قلوبنا بالفرح ...
قبل أن يدق جرس النوم ندخل إلى الحمامات تحت مياه الدش، أغني لنفسي: «عندما يأتي المساء ونجوم الليل تنثر، اسألوا الليل عن نجمي، متى نجمي يظهر؟!»
أسمع فاطمة من وراء الجدار تغنيها بصوتها الشجي ... تنهمر الدموع من عيني مع المياه الساقطة فوق رأسي، لم يكن ينغص علينا حياتنا إلا ضابطة الداخلية، اسمها كان «أبلة عزيزة»، مثل الشاويشة في السجون، تحمل في يدها مفاتيح غرفة التأديب، ترتدي حذاء أسود غليظا له كعب كاوتش سميك أو «كريب»، لا نسمع وقع قدميها حين تمشي مثل مس هيمر في مدرسة منوف.
كانت ليالي الجمعة في الداخلية أجمل الليالي ... تخلو المدرسة من كل ضابطة الداخلية ... تحمل حقيبة ملابسها الصفراء لقضاء نهاية الأسبوع ... نرقبها حتى تختفي وراء الباب الخارجي، فنطلق الصفافير وصيحات الفرح، نقلب عنبر النوم إلى صالة للرقص والغناء أو خشبة للمسرح.
عالم جديد كان ينفتح أمامي، الحياة المشتركة مع البنات من عمري، لم أعرف هذه السعادة من قبل، في المدرسة الخارجية لم تكن هناك فرصة لهذه الحياة الجماعية، الحصة تأتي وراء الحصة، ثم يدق جرس الانصراف فننطلق إلى بيوتنا، نخشى التأخير. في القسم الداخلي عندنا الوقت، لا نخشى التأخر عن العودة إلى البيت أو الأهل، أحببت حياتي الجديدة بلا أهل أعود إليهم ، أصبحت الزميلات من الأهل، والمدرسة عندي أفضل من أي بيت.
الفناء واسع، أجري فيه كما أشاء، وعنبر النوم تدخله الشمس من نوافذ كبيرة، ينساب ضوء القمر الفضي إلى سريري، عيون البنات يكسوها البريق، تطل من الأسرة الممتدة بطول العنبر.
في الصباح نقفز من الفراش، نجري في الطرقات الطويلة ، نتزحلق على البلاط بالشباشب والقباقيب، داخل الحمامات المفتوحة، إلا من نصف جدار، نتراشق المياه مثل الأطفال على شط البحر في الإسكندرية، أستعيد طفولتي قبل السابعة من العمر، في ذاكرتي البعيدة صورة لطفلة سعيدة تحملها أمواج البحر إلى السماء الزرقاء، إلى جوارها تسبح أمها كالسمكة، عيناها يكسوهما بريق عسلي، ذراعاها ممدودتان جاهزتان لانتشالها من الغرق.
في الليل أقف في النافذة أطل على القمر، البنات نائمات، واقفة وحدي أحملق في النجوم، أبحث عن نجمتي، يملؤني الحنين إلى حبي الأول، أستعيد ذكراه. تفتح «صفية» عينيها، تنهض من سريرها، تسير حتى النافذة وتقف إلى جواري، تحملق في ضوء القمر، حول عنقها سلسلة ذهبية يتدلى منها مصحف صغير، شيء آخر من الذهب على شكل القلب، تفتحه بأطراف أصابعها، بعض شعرات سوداء، تقربها من فمها تقبلها، تعيدها داخل القلب الذهبي، تغلقه بالقفل، حبها الأول والأخير، شعرات من رأسه هي الذكرى، تركت له خصلة من شعرها، لن تنساه مدى الحياة، لن تتزوج إلا هو، جعلتني أقسم على المصحف ألا أعلن اسمه، دموعها تجري فوق خديها تلمع في الضوء الأبيض. «هو الوحيد اللي باحبه في الدنيا يا نوال، باحبه أكثر من أبويا وأمي، حيبقى دكتور، زي القمر، أحلى واحد في الدنيا، مش ممكن أتجوز غيره.»
Unknown page