الفصل السادس
طالب في خاركوف
ها أنا ذا أعود في سن الخامسة والعشرين طالبا وأمينا على مصالح الدولة، وقد خصص لي مرتب أتقاضاه في كل شهر من ميزانية مصنع بتروفسكى-لينين يفي بنفقات معيشتي ويترك لي فضلة من المال تكفي ثمن ملابسي ونفقات تسليتي، غير أن الجوع والبرد، وهما التوأمان اللذان ألفتهما في إبان الحرب الأهلية، لم يفارقاني طويلا، نعم إنهما لم يكونا من القسوة وطول الأمد كما كانا في الأيام الماضية، بل كانا يتركان لي بين الفينة والفينة مهلة أنجو فيها من عذابهما، ولكنهما مع ذلك كانا يعودان بكل ما فيهما من قسوة كما يعود مرض الأسنان المزمن.
وكان المعهد الفني في خاركوف يشغل بناء ضخما قديما مشيدا على طرف حديقة غناء في شارع كبلونوفسكي، وما من شك في أنه كان في الأوقات العادية نموذجا لما يجب أن تكون عليه المدينة الجامعية، وفي وسعي أن أتخيله في تلك الأوقات وقد اجتمع فيه الشبان بحللهم الجامعية الأنيقة، معظمهم من الأسر الموسرة، يجمعون بين العمل وبين نزق حياة الطلاب، وما من شك أيضا في أن روح الشباب كانت تسري في جو الدراسة، أما في الوقت الذي التحقت فيه بهذا المعهد فقد كان صاخبا مزدحما يكد فيه الطلاب كما يكد العمال في مصهر عظيم دائب على العمل، ترى فيه اللجاجة والدعوة إلى العمل والعجلة الملازمة لمشروع الخمس السنين كما تراها في أية صناعة من الصناعات.
ولعل هذا الخليط الذي شاهدته في هذا المعهد من رجال ونساء وفتيان وفتيات لم يحشر مثله في معهد واحد من معاهد التعليم قبل ذلك الوقت أو بعده إلى يومنا هذا، وكان معظم الطلبة يزيدون على الثالثة والعشرين من عمرهم، وكثيرون منهم بين الثلاثين والأربعين، وكان الذين أوتوا منهم قسطا من العلم والثقافة يجتمعون في فصول واحدة مع الشبان من العمال الذين لم يكونوا يحلمون قط بأنهم سيدرسون العلم في يوم من الأيام، ويرون في هذه الدراسة نوعا من العذاب؛ ذلك أننا جندنا من المصانع وأفران صهر المعادن والمناجم والمكاتب، ليؤلف منا ذلك الجيش العرمرم من رجال الفكر الفنيين على الطراز الجديد، وكنت ترى في هذا الحشد العظيم رجالا من ذوي الوجوه الكالحة من وسط آسيا لم يروا من قبل مدينة غربية يعيشون مع طلبة ذلك الإقليم نفسه المقيمين مع أسرهم في بيوتهم، كما كانت بينهم طائفة كبيرة من الجنود القدامى المحنكين وأنصار الحزب السابقين - من رجال العصابات المحاربة - جيء بهم من سيبيريا، والموظفين الشيوعيين الذين يتقنون أساليب السياسة الحديثة.
وأكبر الظن أيضا أن فئة غيرنا من الطلاب المجدين لم تدرس منهاجا يشبه في صعوبته المنهاج الذي وضع لنا، لقد كنا نشق طريقنا في هذا المنهاج كما يشق جماعة من الناس طريقهم وسط غابة تكتنفهم فيها الأخطار من كل ناحية ، أو كما يشق الجيش طريقه في بلد معاد له، فلم يكن عملنا في هذا المعهد شبيها بحال من الأحوال بعمل الطلبة الممهد في المدرسة العادية وفي الأوقات العادية.
وكنت أسكن مع آلاف غيري من طلبة معاهد مختلفة في خاركوف في مجموعة من حجر النوم في شارع بشكين غصت بنا كأنها خلايا النحل، وكنا نكدس فيها كل أربعة أو خمسة في حجرة واحدة، يشوي أجسامنا حر الصيف وتتجمد أطرافنا من زمهرير الشتاء.
وكثيرا ما اشتد البرد في شتاء 1930-1931م في هذه الأماكن حتى تجمدت منه المياه في المغاسل، فكنا نجمع ما نعثر عليه من قطع الخشب المتفرقة وأسوار الحدائق والأثاث المحطم والصحف القديمة، لنلقيها في الموقد الذي وضع في حجرتنا، وكان موقدا صغيرا من الحديد ذا مدخنة بالية من قطع متعددة، تخرج من إحدى النوافذ، وفي هذا الجو كنا نسكن وندرس ونتناقش ونحلم بمستقبل بلدنا الصناعي، ونحن نقاوم البرد والجوع في ذينك الزمان والمكان.
وكان النساء يقمن في جناح خاص بهن، ولكننا كنا مع ذلك أحرارا في الاختلاط بهن في قاعات الاجتماعات العامة وفي المطاعم، ولم نكن نمنع من المذاكرة معهن في حجراتنا وحجراتهن، وما من شك في أن صلات كانت تنشأ بين الطلبة والطالبات، فلم يكن ثمة شيء من التزمت في هذه الأماكن، وإن كان المستوى الخلقي ساميا بوجه عام؛ ذلك أن مزاج الطلبة والطالبات كان مزاجا تغلب عليه الصرامة والكآبة، وأن الصعاب التي تحيط بهم كانت قاسية كثيرة، واحترام بعضهم بعضا كان احتراما حقا لا تشوبه شائبة، وكل هذا يحول بينهم وبين العبث والاستهتار.
وكان يشاركني في حجرتي أربعة من الطلاب هم: ألكسي كارنوخوف، وجورج فجورا، ونجلسكين، وفانيا آفداش تشنكو، وكلنا من «الآلاف» المعبئين، وكلنا من أعضاء الحزب.
Unknown page