ثم ضرب كزلوف صفحا عن الموضوع كله وقال في شهامة ورحابة صدر إن الأقوال التي صدرت من أبي ليست إلا سورة من شيخ مكلوم طاعن في السن ساخط على ما ارتقى إليه العالم الجديد، ثم سألني: «ومتى تتقدم بطلب الانضمام إلى الحزب؟» - «في القريب العاجل على ما أظن.» - «حسن! سأحضر الاجتماع لأزكيك، فإنا في حاجة إليك يا كرافتشنكو؛ لأن أمامنا أعمالا شاقة كثيرة، وليس في مقدورنا أن نعتمد على الجيل القديم، بل ليس في مقدورنا أن نعتمد على خير رجال ذلك الجيل.»
وهكذا كان كبار الشيوعيين يغرونني من آن إلى آن بالانضمام إلى الحزب، وكانوا يقولون لي إني ما دمت أعمل معهم وأعينهم في كفاحهم من أجل الحياة الجديدة، فلم أتنحى عنهم من الوجهة النظامية، والحق أني كنت متفقا معهم في كل شيء، وكنت منضما إليهم بقلبي وآمالي؛ ولذلك اعتزمت أن أنضم إلى الحزب مخلصا لمبادئه، لا تخالجني فيها ريب ولا هواجس، سأنضم إلى الجيش العامل على إقامة صرح العالم الصناعي الجديد والعالم الاشتراكي الجديد.
وكنا في صحيفة المصنع نستمتع بحرية واسعة داخل دائرة نظام الحزب، ولم يكن بين محرري الصحيفة من لم ينضم بعد إلى الحزب إلا أنا ورجل آخر يدعى بلسكوف، وكانت الصحيفة في بادئ الأمر أسبوعية ثم أصبحت فيما بعد يومية، وكان يوزع منها نحو 35000 نسخة، وكان يقرؤها بطبيعة الحال كل شخص يعمل في مصانع بتروفسكي-لينين تقريبا، بل إنها تعدت دائرة المصنع وانتشرت بين رجال الاقتصاد وبين موظفي الحزب في الإقليم كله بل وفي موسكو نفسها.
وكان كل ما يكتب في الصحيفة يمر بطبيعة الحال على الرقيب، ولم يكن يسمح لها بأن تنشر شيئا يمكن أن يلقي ظلا من الشك على التنظيم الصناعي أو على سياسة الحزب الشيوعي، والحق أن أحدا لم يكن يدور بخلده أن يكتب شيئا من هذا القبيل إلا إذا كان بعقله خبال، أما مهاجمة إدارة المصنع وموظفي الحزب والنقابات، وما كان يحدث في أعمال الإنتاج والإدارة من أخطاء فردية معينة، فهذه كلها كان يسمح بنشرها، وكان القراء يخدعون بهذا فيعتقدون أن الصحيفة تعبر عن الرأي العام.
وكان النقد الذاتي - سمو كريتيسكا - من أهم شعائر ذلك العهد، وكان الناس جميعا يشجعون على أن يقولوا «كل ما يعرفون» من العيوب والأخطاء والوسائل التي يمكن أن يستعان بها على الإصلاح في الصحف العامة، وفي صحف المصانع والمزارع، وفي النشرات المعروفة «بأوراق الجدران»، وكان هذا الانتقاد من الوسائل التي ابتكرت لتحسين نوع العمل، ولكنه كان في بعض الأحيان سوطا يسلطه كبار البيروقراطيين على رءوس صغارهم.
وكانت المصانع وقتئد لا تزال تديرها هيئة ثلاثية مؤلفة من ممثلين للإدارة والحزب ونقابات العمال، وفي هذا الجم الغفير من الموظفين الذين يراقب بعضهم بعضا كان الانتقاد الذاتي ينقلب في بعض الأحيان إلى وسائل خفية للنزاع على المناصب والسلطة.
وألقيت بنفسي في تيار هذا الانتقاد الذاتي بحماسة أزعجت بعض زعماء مصنعنا، فأخذت أهاجم ما فيه من عيوب مهاجمة عنيفة شريفة غير عابئ بمن يصيبه الضرر من جراء هذا الهجوم أيا كان مركزه، وسرعان ما أدركت السبب الذي من أجله أخذ بعض ذوي المكانة في المصنع يتقربون إلي على غير انتظار؛ فقد كانوا بلا شك يعتقدون أن خير ما يضمن لهم مراكزهم أن يكسبوا صداقة شاب مرهف القلم يسدده إلى أولئك الرؤساء المتأخرين المجاملين.
ولم تكن مقالاتي تنشر في صحيفة المصنع وحدها، بل كانت تظهر كذلك في نشرات خاركوف ودنيبروبتروفسك التي كنت مراسلا لها في المصنع الكبير، وكانت الصحف التي تنطق بلسان الحزب في المدينة تعلق على مقالاتي وتضرب بها المثل لما يجب أن يكون عليه «الشباب العامل».
وماذا يظن القارئ أني كنت أكتب فيه؟ كنت أكتب في الإسراف الذي لا يرتضيه الضمير، وفي التلف الذي يصيب السلع، وفي العمال الذين لا يقدرون عددهم وآلاتهم التقدير الواجب، وفي التكاليف الباهظة التي تتكلفها كل وحدة من إنتاج مصنعنا إذا قيست إلى ما يتكلفه مثلها في مصانع السويد وأمريكا، وفي الموقف غير اللائق الذي يقفه الرفيق فلان من العمال، وفي رداءة نوع المنتجات المادية، وفيما يمكن إدخاله من الإصلاح على بعض وسائل الإنتاج؛ لنقتصد بذلك آلاف الأيدي العاملة.
على أن أكثر ما كان ينزعج له المشرفون على الحياة الرتيبة في المصنع تلك المقالات العنيفة التي كنت أهاجم فيها الظروف المحيطة بالعمال المقيمين في الثكنات، وقد أوضحت في هذه المقالات أن الأجور مرتفعة في ظاهرها ولكنها لا تتمشى مع الأثمان الجديدة التي تباع بها المأكولات في مطاعم المصنع ومخازنه، وتساءلت: متى يتم بناء المساكن التي كثر التحدث عنها؟ ولماذا يعيش بعض الموظفين في رغد من العيش على حين أن الكثيرين من عمال المصنع لا يجدون ضرورات الحياة؟
Unknown page