وكانت الممرضة الحسناء تعاملني كأني ولدها، والحق أني وأنا ضعيف في دور النقاهة كنت أحس بأن الروسيا كلها قد تبنتني - الروسيا بعمالها ولجان شبابها ورجالها الرسميين - وأني كنت الابن المحبوب لأسرة كبيرة عجيبة.
وأمرني الأطباء ألا أعود إلى المناجم إلا بعد سنة على الأقل، وأصروا على أمرهم هذا رغم إلحاحي الشديد، وأبلغوا القرار إلى رجال الإدارة، ولم أكن أحب قط أن أرجع إلى أعمال المكاتب؛ ولهذا تأهبت للعودة إلى المزرعة التعاونية وإلى إيكترنوسلاف.
وبينا أنا أعد العدة للرجوع، وإذا الأنباء تأتينا في الرابع والعشرين من شهر يناير سنة 1924م بأن لينين قد مات، وكانت الصدمة التي حلت بهذا الركن من أركان وادي الدنتز صدمة حقة لا تكلف فيها ولا رياء، كما كان الحزن الذي سرى في نفوس أهله حزنا عميقا أقض مضاجعهم وأكسف بالهم، ولم يكن الباعث على هذا الحزن ذا صلة بالسياسة، فقد أصبح لينين في عرف الفحامين السذج، حتى المقامرين منهم في الثكنات والمعربدين والمختالين المتفاخرين بأحذيتهم ذات الصرير، بله شباب الحزب أنفسهم، لقد أصبح لينين لهؤلاء وأولئك رمزا للأمل المرجو، لقد كنا كلنا في حاجة إلى الاعتقاد بأن ما قاسيناه في تلك السنين الدامية إنما هو غرس سيخرج أينع الثمار في مستقبل زاهر بسام؛ ولذلك أحس كل منا بأنه أصابته هو نفسه خسارة لا تعوض.
ومشيت على قدمي مع آلاف غيري من العمال ثلاثة أميال حتى وصلنا إلى مكان الاجتماع التذكاري خارج مكتب النجم، وهو المكان الذي كان يطلق عليه اسم «مزرعة باريس التعاونية»، وكان ذلك في عجز النهار، والجو بارد قارس البرودة، والثلج يتساقط، والريح تحز في أجسامنا حز السكاكين، وأقيمت منصة في الخلاء غطيت بقماش أحمر وأسود، وإن كان الثلج المتساقط لم يلبث أن غطى كل جزء منها، وتعاقب عليها الخطباء، وقد علت أصواتهم على هزيم الريح، وأخذوا ينطقون بعبارات الحزن الرسمية.
وقام مندوب متباه من أهل خاركوف وصاح بأعلى صوته: «أيها الرفاق المعدنون، لقد مات لينين، ولكن العمل الذي قام به لا يزال يتقدم حثيثا، إن زعيم الثورة العمالية ... وزعيم الطبقات العاملة في العالم أجمع ... وخير تلاميذ ماركس وأنجل ...»
وكان لهذه الكلمات الرسمية أسوأ الأثر في نفسي، وعجبت لهم لم لا يتكلمون بأبسط الألفاظ تخرج من قلوبهم لا من أقلام محرري صحيفتي برفدا وإزفستيا، ولشد ما سرني وأنا عائد متثاقل إلى بيتي وسط الزوبعة الثلجية، أن أعرف أن سينيا وغيره من الرفاق كانوا يشعرون بنفس الكآبة التي أشعر بها، لقد كنا كلنا نحس بأن الخطباء عجزوا عن التعبير عما نشعر به نحو لينين؛ لأن ما نشعر به كان أقل صلة بالزعيم الراحل منه بآمالنا الحية.
وقرأنا في الصحف المحلية بعد بضعة أيام من ذلك الوقت نص القسم الذي أقسمه ستالين على نعش لينين في الميدان الأحمر في موسكو، وكان هذا القسم عهدا قصيرا أشبه شيء بالطقوس الكنسية، أخذ فيه على نفسه أن يسير في الطريق الذي رسمه له الزعيم الراحل، وأثر في هذا العهد أكثر مما أثرت في الخطب التي ألقيت في اجتماعنا التذكاري، وكان ستالين وقتئذ عضوا في الهيئة السياسية صاحبة السلطة العليا في البلاد، وأمين السر العام للحزب، وكان من بداية الأمر أحد أعضاء الحزب البارزين، ولكني لم أحس بوجوده إحساسا حقا قويا قبل هذه المرة، وعجبت كيف لم تعلق صورته على جدران بيتنا!
وأخذ اسم ستالين من ذلك اليوم يذيع ويعظم ويتردد على كل لسان، حتى ليصعب على الإنسان أن يذكر وقتا لم يكن فيه اسم هذا الرجل القوة المسيطرة على شئون حياتنا.
لم أقض في إقليم التعدين أكثر من عام واحد، ولكن مع ذلك لم أجد من السهل علي أن أنتزع نفسي من الحياة التي ألفتها فيه، ولو أن إنسانا أخبرني في صباح ذلك اليوم المقبض الذي قدمت فيه إلى ذلك الإقليم بأني سأحب ذلك المكان الأجرد، وأهله الأجلاف، وعمله المقبض؛ لظننت به جنة، غير أني أخذت من بادئ الأمر أشعر بشعور عمال المناجم، وأرى عيوبهم ونقائصهم، ولكني أراها كما يراها العمال أنفسهم، فتثير عطفي عليهم، لا كما يراها الخارج عنهم فلا تثير فيه إلا النقد والتجريح.
من أجل ذلك كانت حياة عمال مناجم الفحم التي غلبت عليها الكآبة والفساد، وتعرضت لأشد الأخطار، تثير في نفسي عطفا شديدا عليهم ورأفة بهم قربتهم إلي، فليس بصحيح أننا لا نحب إلا ما يشرح الصدر ويلذ العين، بل إن ما يثير الحزن أو يرتد عنه الطرف قد يستحوذ هو الآخر على الخيال والحواس، والناس يحبون ما تهتز له أوتار قلوبهم، ويربطهم بالأماكن وأهلها ما تبعثه وما يبعثونه فيهم من عواطف ولو كانت عواطف محزنة بعيدة كل البعد عن السرور والبهجة، وشاهد ذلك أني لم أنس قط الأيام التي قضيتها في مناجم الفحم، وما فتئت أحس بأني قريب من مستخرجيه سكان العالم السفلى المظلم.
Unknown page