إني أصدع بكل ما يأمرونني به، ومتعتي في حياتي هي هذان الجوادان، أعنى بهما خير عناية، نعم إنهما ملك الحكومة، لكني أخيل لنفسي أنهما لي، إنهما أسرتي التي لا أسرة لي غيرها الآن؟ إني أغذوهما وأنظفهما وأتحدث إليهما، إنهما يفهمان عني، يفهمان كل كلمة أقولها، إنني بهذين الجوادين لا أزال «كوزما إيفانوفتش» ولست «كوزكا» مجردة عن الألقاب، إن كل رجائي هو أن يدفن جسدي إلى جانب زوجتي العجوز إذا ما جاءت منيتي، لقد رجوت ناسا من أطيب الناس أن يذكروا ذلك، فوعدوا أن يحققوا لي الرجاء، فأنا - كما تريان - خلي من الهموم.»
ثم استأنف عزفه على المزمار.
ولما بلغنا الغاية المقصودة، وهي القسم السياسي في القرية، كان قد أمسى المساء، وقد كان مقر القسم السياسي دارا جميلة في نهاية طريق محصوب تحف جانبيه أشجار من حور، وكان في القسم كثير من الموظفين يرقبون قدومنا فرحبوا بنا، وبعد أن قدم كل منا نفسه للآخر، صحبناهم إلى كوخ كان يقيم به مساعد الرئيس، وكان المكان نظيفا، والعشاء شهيا كافيا رغم بساطته.
لم يكن يسيرا عليك وأنت جالس إلى المائدة المليئة بصنوف الطعام، ومصباح الغاز يرسل شعاعا بهيجا من الضوء، لم يكن يسيرا عندئذ أن تتخيل أن الجوع والموت قد استوليا على المنازل المحيطة بنا جميعا، لقد أخذت أمعن النظر في هؤلاء الرجال الذين سأزاول معهم مهمتي، ولم يكن خافيا أنهم كذلك بدورهم يمعنون في النظر.
كان «سومانوف»، رئيس القسم السياسي، رجلا من رجال الجيش، كان بكباشيا في المدفعية، هو قصير مليء سنه حول الأربعين، ووجهه هادئ يشيع في ملامحه شيء من العطف، ولم أكد أراه حتى أحببته، أما مساعده - وهو صاحب الدار - فكان مديرا لمصنع من مصانع المعادن في حوض الدونتز، كان أنيق الملبس كثير الجلبة ثرثارا يفيض فيضا بنكاته، وأما المساعد الثاني فضابط شاب من الشرطة السرية، وهو أسود الشعر والعينين أنيق الثياب، كان لا يتكلم إلا قليلا، لكنه يرهف السمع إنصاتا للحديث، ثم عضو رابع من القسم السياسي كان محررا في إحدى الصحف جاء من مدينة في الإقليم الذي كنت من أبنائه.
أخذ كل منا يقلب النظر في الآخرين، وعرفت كيف أسوق في الحديث عرضا أسماء أصدقائي الذين يحتلون مكانة عالية، بل أشرت تلميحا إلى معرفتي الشخصية بالوزير «أورزنكدز»، ولما ألقيت في حديثي أسماء معارفي من رجال الشرطة السياسية في المدينة التي نشأت فيها، وجه الضابط الشاب الذي ينتمي إلى هذه الفرقة انتباها لقولي واعتدل له بجسمه اعتدالا اندفع إليه بلا شعوره، فمهما يكن من أمر المهمة التي تنتظرني، فقد كان لا بد لي من أن أحشد كل قطرة أستطيع حشدها من المكانة في أعين الناس حتى أستطيع أداء مهمتي.
ولما فرغنا من عشائنا عقدنا اجتماعا رسميا، وأخذت أنا و«يوري» نزداد معرفة بطبيعة ما نحن مقدمان عليه من عمل، وتفضل علينا الحاضرون بوصف موظفي ذلك الإقليم ومختلف شخصياتهم، أعني موظفي المزارع الجماعية التي ألقيت تبعتها على عاتقينا، والظاهر أن قد شاء لنا حسن الحظ أن تكون المحصولات مبشرة بوفرة وجودة، فكانت مهمتنا إذن أن نصونها وأن نرعى جمعها رعاية تضمن للحكومة نصيبها كاملا، وحدد اليوم الأول من سبتمبر تاريخا أقصى للحصاد، وقد جمع ما بيننا اشتراكنا في التبعة، على الرغم من أن كلا منا خصص له جزء معين يكون تحت رعايته.
وفي صبيحة اليوم التالي دعاني الرفيق «سومانوف» إلى مكتبه الخاص.
قال لي: «إن خبرتك بالزراعة أوسع من خبرة الكثرة الغالبة من «الممثلين الرسميين» وذلك شيء محمود، لكني أحب أن تكون على حذر، سيصادفك كثير من ألوان الشقاء، وستكون صاحب الكلمة لأني لن أشير عليك كيف تتصرف فيما عساه أن يصادفك من مواقف ، لكن شيئا واحدا أريد أن أشير عليك به، وذلك ألا تتخاذل إزاء ما ترى، وإلا كنت عديم النفع لنفسك ولمهمتك، اعمل ما تظنه لازما ولا تأبه لما عدا ذلك من ضروب التدخل، إن كل سيئة قمينة أن تجد الغفران لو أنك نفذت الخطة في إحكام ودقة، وإلا ... ماذا أقول وكلنا يعرف النتائج، إن لك مني كل معونة مستطاعة، وفي انتظارك الآن رؤساء المزارع الجماعية ورئيس السوفيت في القرية، فأتمنى لك حظا سعيدا!»
وما هو إلا أن عدت مع «يوري» إلى استئناف السفر، وكانت قراه تبعد عن قراي ما يقرب من ثمانية أميال، فلما بلغنا «لوجينا» التي ستكون مركز إقامتي، نزلت من العربة أمام مقر السوفيت وواصلت العربية سيرها تحمل «يوري» وحده.
Unknown page