314

Al-Tawḍīḥ al-Rashīd fī sharḥ al-tawḥīd

التوضيح الرشيد في شرح التوحيد

Genres

الشَّرْحُ
- مُنَاسَبَةُ هَذَا البَابِ لِكِتَابِ التَّوْحِيْدِ أَنَّهُ مُشَابِهٌ لِلبَابِ السَّابِقِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ العَامِلَ فِيْهِ يُرِيْدُ بِعَمَلِهِ الثَّوَابَ العَاجِلَ - كَالرِّزْقِ وَالعَافِيَةِ وَالأَمَانِ وَالذُّرِّيَّةِ -، وَلَكِنَّهُ مُخَالِفٌ لِلبَابِ السَّابِقِ فِي أَنَّ العَامِلَ هُنَا عَمَلُهُ هُوَ لِوَجْهِ اللهِ وَلَيْسَ رِيَاءً، وَأَمَّا البَابُ السَّابِقُ فَعَمَلُهُ هُوَ لِمُرَاءَاةِ النَّاسِ، وَاشْتَرَكوا فِي كَوْنِ الغَايَةِ من عَمَلِهِم هِيَ المَصْلَحَةُ العَاجِلَةُ فَقَط. (١)
- مَنْ كَانَ عَمَلُهُ كُلُّهُ لِلأَجْرِ العَاجِلِ وَالثَّوَابِ الدُّنْيَوِيِّ ولَا يَرْجُو الآخِرَةِ أَبَدًا؛ فَهَذَا هُوَ الكَافِرُ الكُفْرَ الأَكْبَرَ (٢)، وَسَبَبُ ذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى عَدَمِ إِيْمَانِهِ بِاليَوْمِ الآخِرِ؛ وَأَنَّ فِيْهِ الجَزَاءَ وَالثَّوَابَ وَالجنَّةَ وَالنَّارَ، وَهَذَا يُنَاقِضُ أَصْلَ التَّوْحِيْدِ، وَمَنْ فَعَلَ فِعْلَهُ مِنَ المُسْلِمِيْنَ فَفِيْهِ خَصْلَةٌ مِنَ الكُفْرِ حتَّى يَدَعَهَا (٣)، وَهُوَ بِذَلِكَ يُنَاقِضُ كَمَالَ التَّوْحِيْدِ الوَاجِبِ، فَهُوَ يُرِيْدُ بِعَمَلِهِ نَفْعًا فِي الدُّنْيَا وَلَكِنَّهُ غَافِلٌ عَنْ ثَوَابِ الآخِرَةِ. (٤)
- مَنْ عَمِلَ عَمَلًا مُخْلِصًا فِيْهِ للهِ رَاجِيًا بِذَلِكَ الثَّوَابَ العَاجِلَ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يُؤْجَرُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَلَوْ كَانَ كَافِرًا. (٥)
وَفِي الحَدِيْثِ (إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً؛ يُعْطَى بِهَا فِي الدُّنْيَا وَيُجْزَى بِهَا فِي الآخِرَةِ، وَأَمَّا الكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتِ مَا عَمِلَ بِهَا لِلَّهِ فِي الدُّنْيَا؛ حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الآخِرَةِ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بِهَا). (٦)

(١) وَأَيْضًا يُمْكِنُ أَنْ يُضَافَ أَنَّ العَمَلَ هُنَاكَ حَابِطٌ لَا ثَوَابَ فِيْهِ مِنَ اللهِ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الآخِرَةِ، أَمَّا هُنَا فَقَدْ يُثَابُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا.
(٢) وَكَذَلِكَ فِي البَابِ السَّابِقِ مَنْ كَانَ عَمَلُهُ كُلُّهُ لِغَيْرِ اللهِ فَهَذَا هُوَ المُنَافِقُ الأَصْلِيُّ، وَكَمَا سَبَقَ قَرِيْبًا بَيَانُ أَنَّ الرِّيَاءَ نَوْعَانِ: رِيَاءُ المُنَافِقِ - وَرِيَاءُ المُسْلِم.
(٣) كَمَا أَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَكُوْنُ فِيْهِ خَصْلَةٌ مِنْ خِصَالِ المُنَافِقِ الخَالِصِ (كَالكَذِبِ وَالخِيَانَةِ وَالغَدْرِ وَالفُجُورِ).
(٤) قَالَ العَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي التَّفْسِيْرِ (ص٣٧٨): (يَقُوْلُ تَعَالَى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيْدُ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا﴾ أَيْ: كُلُّ إِرَادَتِهِ مَقْصُورةٌ عَلَى الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَعَلَى زِينَتِهَا مِنَ النِّسَاءِ وَالبَنِيْنَ وَالقَنَاطِيْرِ المُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ وَالخَيْلِ المُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالحَرْثِ؛ قَدْ صَرَفَ رَغْبَتَهُ وَسَعْيَهُ وَعَمَلَهُ فِي هَذِهِ الأَشْيَاء وَلَمْ يَجْعَلْ لِدَارِ القَرَارِ مِنْ إِرَادَتِهِ شَيْئًا؛ فَهَذَا لَا يَكُوْنُ إِلَّا كَافِرًا، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُؤْمِنًا؛ لَكَانَ مَا مَعَهُ مِنَ الإِيْمَانِ يَمْنَعُهُ أَنْ تَكُوْنَ جَمِيْعُ إِرَادَتِهِ لِلدَّارِ الدُّنْيَا، بَلْ نَفْسُ إيِمَانِهِ وَمَا تَيَسَّرَ لَهُ مِنَ الأَعْمَالِ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ إِرَادَتِهِ الدَّارَ الآخِرَةَ. وَلَكِنَّ هَذَا الشَّقِيَّ الَّذِيْ كَأَنَّهُ خُلِقَ لِلدُّنْيَا وَحْدِهَا ﴿نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيْهَا﴾ أَيْ: نُعْطِيْهِم مَا قُسِمَ لَهُم فِي أُمِّ الكِتَابِ مِنْ ثَوَابِ الدُّنْيَا ﴿وَهُمْ فِيْهَا لَا يُبْخَسُونَ﴾ أَيْ: لَا يُنْقَصُونَ شَيْئًا مِمَّا قُدِّرَ لَهُم؛ وَلَكِنْ هَذَا مُنْتَهَى نَعِيْمِهِم).
(٥) قَالَ تَعَالَى: ﴿وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِيْنَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَاليَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهُوْنِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُوْنَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُوْنَ﴾ (الأَحْقَاف:٢٠).
وَكَمَا فِي البُخَارِيِّ (٢٤٦٨)، وَمُسْلِمٌ (١٤٧٩) مِنْ حَدِيْثِ عُمَرَ ﵁؛ أَنَّهُ قَالَ لِرَسُوْلِ اللهِ ﷺ (اُدْعُ اللهَ أَنْ يُوسِّعَ عَلَى أُمَّتِكِ؛ فَقَدْ وَسَّعَ عَلَى فَارِسَ وَالرُّوْمَ؛ وَهُمْ لَا يعْبُدُوْنَ اللهَ! فَاسْتَوَى جَالِسًا، ثُمَّ قَالَ: (أَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الخَطَّابِ؟! أُوْلَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُم طَيِّبَاتُهم فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا».
(٦) مُسْلِمٌ (٢٨٠٨) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوْعًا.
وَرَوَى الطَّبَرِيُّ فِي التَّفْسِيْرِ (٢٦٤/ ١٥) عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ (﴿مَنْ كَانَ يُرِيْدُ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيْهَا وَهُمْ فِيْهَا لَا يُبْخَسُوْنَ﴾ أَيْ: لَا يُظْلَمُونَ. يَقُوْلُ: مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ وَسَدَمَهُ (أَي: وَلَعَهُ) وَطِلْبَتَهُ وَنِيَّتَهُ جَازَاهُ اللهُ بِحَسَنَاتِهِ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ يُفْضِي إِلَى الآخِرَةِ وَلَيْسَ لَهُ حَسَنَةٌ يُعْطَى بِهَا جَزَاءً. وَأَمَّا المُؤْمِنُ؛ فَيُجَازَى بِحَسَنَاتِهِ فِي الدُّنْيَا وَيُثَابُ عَلَيهَا فِي الآخِرَةِ ﴿وَهُمْ فِيْهَا لَا يُبْخَسُونَ﴾ أَيْ: فِي الآخِرَةِ لَا يُظْلَمُونَ).

1 / 314