205

Al-Tawḍīḥ al-Rashīd fī sharḥ al-tawḥīd

التوضيح الرشيد في شرح التوحيد

Genres

﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى﴾ يَنْصَحَاهُ، وَ﴿يَقُوْلَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ﴾ أَيْ: لَا تَتَعَلَّمِ السِّحْرَ فَإِنَّهُ كُفْرٌ، فَيَنْهَيَانِهِ عَنِ السِّحْرِ، وَيُخْبِرَانِهِ عَنْ مَرْتَبَتِهِ، فَتَعْلِيْمُ الشَّيَاطِيْنِ لِلسِّحْرِ عَلَى وَجْهِ التَّدْلِيْسِ وَالإِضْلَالِ، وَنِسْبَتُهُ وَتَرْويجُهُ إِلَى مَنْ بَرَّأَهُ اللهُ مِنْهُ - وَهُوَ سُلَيْمَانُ ﵇ (هُوَ أَيْضًا عَلَى وَجْهِ الإِضْلَالِ) (١)، وَتَعْلِيْمُ المَلَكَيْنِ امْتِحَانًا مَعَ نُصْحِهِمَا لِئَلَّا يَكُوْنَ لَهُم حُجَّةٌ. (٢)
فَهَؤُلْاءِ اليَهُوْدُ يَتَّبِعُونَ السِّحْرَ الَّذِيْ تُعَلِّمُهُ الشَّيَاطِيْنُ وَالسِّحْرَ الَّذِيْ يُعَلِّمُهُ المَلَكَانِ، فَتَرَكُوا عِلْمَ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِيْنَ وَأَقْبَلُوا عَلَى عِلْمِ الشَّيَاطِيْنِ، وَكُلٌّ يَصْبُو إِلَى مَا يُنَاسِبُهُ.
ثُمَّ ذَكَرَ مَفَاسِدَ السِّحْرِ فَقَالَ: ﴿فَيَتَعَلَّمُوْنَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُوْنَ بِهِ بَيْنَ المَرْءِ وَزَوْجِهِ﴾ مَعَ أَنَّ مَحَبَّةَ الزَّوْجَيْنِ لَا تُقَاسُ بِمَحَبَّةِ غَيْرِهِمَا؛ لِأَنَّ اللهَ قَالَ فِي حَقِّهِمَا: ﴿وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ (الرُّوْم:٢١) وَفِي هَذَا دَلِيْلٌ عَلَى أَنَّ السِّحْرَ لَهُ حَقِيْقَةٌ، وَأَنَّهُ يَضُرُّ بِإِذْنِ اللهِ، أَيْ: بِإِرَادَةِ اللهِ، وَالإِذْنُ نَوْعَانِ: إِذْنٌ قَدَرِيٌّ؛ وَهُوَ المُتَعَلِّقُ بَمَشِيْئَةِ اللهِ، كَمَا فِي هَذِهِ الآيَةِ، وَإِذْنٌ شَرْعِيٌّ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الآيَةِ السَّابِقَةِ: ﴿فَإِنَّهُ نزلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ﴾ (٣)
وَفِي هَذِهِ الآيَةِ وَمَا أَشْبَهَهَا؛ أَنَّ الأَسْبَابَ مَهْمَا بَلَغَتْ فِي قُوَّةِ التَّأْثِيْرِ، فَإِنَّهَا تَابِعَةٌ لِلقَضَاءِ وَالقَدَرِ؛ لَيْسَتْ مُسْتَقِلَّةً فِي التَّأْثِيْرِ. (٤)
ثُمَّ ذَكرَ أَنَّ عِلْمَ السِّحْرِ مَضَرَّةٌ مَحْضَةٌ، لَيْسَ فِيْهِ مَنْفَعَةٌ لَا دِيْنِيَّةٌ وَلَا دُنْيَوِيَّةٌ؛ كَمَا يُوْجَدُ بَعْضُ المَنَافِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ فِي بَعْضِ المَعَاصِي، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الخَمْرِ والمَيْسِرِ: ﴿قُلْ فِيْهِمَا إِثْمٌ كَبِيْرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ (البَقَرَة:٢١٩) فَهَذَا السِّحْرُ مَضَرَّةٌ مَحْضَةٌ، فَلَيْسَ لَهُ دَاعٍ أَصْلًا فَالمَنْهِيَّاتُ كُلُّهَا إِمَّا مَضَرَّةٌ مَحْضَةٌ، أَوْ شَرُّهَا أَكْبَرُ مِنْ خَيْرِهَا، كَمَا أَنَّ المَأْمُورَاتِ إِمَّا مَصْلَحَةٌ مَحْضَةٌ أَوْ خَيْرُهَا أَكْثَرُ مِنْ شَرِّهَا.
﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا﴾ أَيْ اليَهُوْدُ ﴿لَمَنِ اشْتَرَاهُ﴾ أَيْ: رَغِبَ فِي السِّحْرِ رَغْبَةَ المُشْتَرِي فِي السِّلْعَةِ ﴿مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾ أَيْ: نَصِيْبٍ، بَلْ هُوَ مُوْجِبٌ لِلعُقُوْبَةِ، فَلَمْ يَكُنْ فِعْلُهُم إِيَّاهُ جَهْلًا وَلَكِنَّهُم اسْتَحَبُّوا الحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ.
﴿وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُوْنَ﴾ عِلْمًا يُثْمِرُ العَمَلَ مَا فَعَلُوْهُ.

(١) زِيَادَةٌ مِنِّي لَيْسَتْ فِي الأَصْلِ كَيْ يَسْتَقِيْمَ الكَلَامُ.
(٢) كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُوْرَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ (الشَّمْس:٨). قَالَ ابْنُ جَرِيْرٍ الطَّبَرِيُّ ﵀ فِي التَّفْسِيْرِ (٤٥٤/ ٢٤): (فَبَيَّنَ لَهَا مَا يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تَأْتِيَ أَو تَذَرَ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ أَوْ طَاعَةٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ).
قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ ﵀ فِي مَجْمُوْعِ الفَتَاوَى (٩٩/ ١٥): (كَذَلِكَ قَدْ قِيْلَ فِي قَوْلِهِ ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ (البَلَد:١٠): أَيْ: بَيَّنَا لَهُ طَرِيْقَ الخَيْرِ وَالشَّرِّ؛ وَهُوَ هُدَى البَيَانِ العَامِّ المُشْتَرَكِ. وَقِيلَ: هَدَيْنَا المُؤْمِنَ لِطَرِيْقِ الخَيْرِ وَالكَافِرَ لِطَرِيْقِ الشَّرِّ؛ فَعَلَى هَذَا يَكُوْنُ قَدْ جَعَلَ الفُجُوْرَ هُدَى كَمَا جَعَلَ أُوْلَئِكَ البَيَانَ إلْهَامًا. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ ﴿إنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيْلَ إمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُوْرًا﴾ (الإِنْسَان:٣) قِيْلَ: هُوَ الهُدَى المُشْتَرَكُ؛ وَهُوَ أَنَّهُ بَيَّنَ لَهُ الطَّرِيقَ الَّتِيْ يَجِبُ سُلُوْكُهَا وَالطَّرِيقَ الَّتِيْ لَا يَجِبُ سُلُوْكُهَا. وَقِيلَ: بَلْ هَدَى كُلًّا مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ إلَى مَا سَلَكَهُ مِنَ السَّبِيْلِ ﴿إمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُوْرًا﴾).
(٣) قُلْتُ: وَهِيَ غَيْرُ ظَاهِرَةٍ عِنْدِي فِي كَوْنِهَا مِنَ الإِذْنِ الشَّرْعِيِّ - الَّذِيْ قَدْ يَقَعُ وَقَدْ يَتَخَلَّفُ -، وَيُغْنِي عَنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّيْنِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِيْنَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيْمٌ﴾ (الشُّوْرَى:٢١). فَالإِذْنُ هُنَا هُوَ الأَمْرُ بِالشَّرْعِ؛ فَمِنَ النَّاسِ مُطِيْعٌ وَمِنْهُ عَاصٍّ.
(٤) حَيْثُ جُعِلَتْ مُقَيَّدَةً بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى.

1 / 205