وما تراه يهم سميراميس إذا قيل لها إن زوجها انتحر يأسا؟ فهي لم تكن تحبه ولا تحب أحدا سواه، وإنما كانت امرأة شهوانية نهمة للملذات والسيطرة، فسارت إلى بلاط الملك، ونزلت في مقصورة فخمة أعدت لها، وجعلها الملك أولى حظاياه. ولم يطل الزمان حتى صارت بحذقها، وبضروب إغرائها، نافذة الأمر عنده، حتى إنه لولوعه بها كان يحملها معه في حروبه، وقد مكنته مرة بحسن إرشادها وشجاعتها من الاستيلاء على مدينة كان يحاصرها، فعظمت في عينيه وتزوجها فكانت أعز نسائه على قلبه. وولدت سميراميس للملك ولدا سماه نينياس، نشأ نشأة حربية شأن أبناء الآشوريين كلهم.
وكانت الثورات في البلدان التي تحت السيطرة الآشورية متوالية؛ لأن الشعب الآشوري كان شعبا خشنا يعبد القوة ويحتقر الضعف ويقسو على المغلوب، وكان نيره أثقل نير وأضيقه؛ لأن حكومته كانت عسكرية لا تحسن إدارة البلدان التي تخضعها بغير التنكيل والإرهاب. فكانت سميراميس ترافق زوجها الملك لقمع الثورات والفتن، ولم تكن لتتنازل عن أناقتها، وكيف يمكنها الذهاب إلى الحرب في ثيابها الفضفاضة؟ فابتدعت ثوبا أنيقا يمكنها معه أن تقضي سائر حاجات الحياة، وأن تركب الخيول وتحارب دون أقل ارتباك، فانتشر زي هذا الثوب بين نساء سائر الشعوب التي خضعت لسلطان سميراميس.
وصحبت سميراميس مرة الملك نينوس إلى بلاد الطورانيين الثائرين عليه، وبعد أن ظفرا بهم وفتحا مدينتهم انتقم نينوس منهم انتقاما وحشيا، فسلخ جلود كثيرين منهم وهم أحياء، وعلق جلودهم على جدران بناها أمام أبواب المدينة، ثم قطع رءوسهم ونظمها في حبل على شكل عقد، وحكم على من أبقاه حيا من الرجال أن يأكلوا لحوم أبنائهم وبناتهم، ومن أبى قطع أنفه وأذنيه وشفتيه، ثم انتزع آلهة المدينة وكنوزها وعاد إلى عاصمته.
رأت سميراميس هذه الفظائع فلم تقبلها نفسها وكرهت زوجها، وسميراميس لم تكن آشورية الأصل لتكون فيها الروح الآشورية الفظة، وإنما هي بنت إلهة فاضلة عادلة حكيمة، وقد ربتها الحمائم الوديعة، وكانت منذ زمن تصبو إلى السيطرة وحدها؛ لأن نفسها كانت تأبى أن تكون الثانية في المملكة، وأن تظل مغلولة اليدين أمرها مردود إلى أمر زوجها، فعزمت على أن تتخلص منه ليخلو لها الجو فتفعل ما تشاء.
وكان نينوس لشغفه بها ورؤيته ما هي عليه من شجاعة وذكاء قد أشركها في إدارة بعض شئون المملكة، وذات مساء بينما كان جالسا في مقصورتها يتحبب إليها وتملكه بدلالها وشتى حيلها، شعرت بأنها قد استعبدته، فطلبت منه أن يسلمها سلطته كلها دقيقة واحدة، فأجاب طلبتها وعهد إليها بالسلطة المطلقة، فما كان منها إلا أن أمرت بالقبض عليه وقتلته وملكت مكانه، ولما علم الشعب بما فعلته هاج وتألب، جماهير تزاحفت إلى القصر تريد الفتك بها والثأر بالملك، وجاء سميراميس النبأ وهي تستحم فلم تذعر ولم ترتعد، وإنما خرجت من حمامها نصف عارية، وشعرها منفوش، وغدائرها تنوس على كتفيها، وأطلت من شرفة القصر، فلما رأوها شدهوا فصمت ضجيجهم وسجدوا لجمالها سجدة رجل واحد، ثم تفرقوا وهي عندهم في مقام إلهة.
وانصرفت سميراميس بعد أن توطد ملكها على عبادة الشعب لها إلى الشئون العمرانية، فبنت على ضفتي الفرات مدينة بابل أجمل مدينة في الشرق، بل في العالم كله وأشهرها، وسورتها بسور عريض تسير مركبتان معا على سطح جداره، وشيدت صرحا لها زينته بأجمل ما وصل إليه الفن الشرقي من النقوش والتخريم والترصيع، وأنشأت الحدائق المعلقة التي عدت بين عجائب الدنيا السبع، وهي كناية عن جنائن جعلتها على أبراج مرتفعة ارتفاعا شاهقا، ورفعت إليها ماء الفرات بأنابيب تدفعه فيها مدافع آية في الصنعة والإحكام، وجعلت مدينتها مركز تجارة آسيا تلتقي فيها الطرق التي تنبعث إلى بلاد العرب ومصر والهند وأرمينية وآسيا الوسطى، وأنشأت مناسج اشتهرت بنسيجها البابلي في ألوانه الزاهية، على تطريز صور، ورسوم أزهار ونجوم وحيوانات خرافية، وبنت للإله بيلوس هيكلا ضخما فيه ثلاثة تماثيل من ذهب، وأقامت في فنائه برجا عاليا يناطح السحاب، ومدت جسرا على الفرات يصل شطري المدينة أحدهما بالآخر، وانتزعت من مياهه ترعا وجداول جرت منها المياه إلى الأبنية والجنائن والبساتين، وشقت بحيرة تتسرب إليها مياه النهر الطاغية، فلا تتدافع إلى المدينة، وتوقع فيها الخراب.
بعد أن أتمت سميراميس أعمالها ومنشآتها العمرانية تحولت إلى الفتوح، فدوخت البلدان التي جاهرتها بالعصيان، وزحفت في جيش ضخم فأخضعت آسيا وميديا وفارس وأرمينية وفينيقية ومصر وليبية، ثم سارت إلى الهند لمحاربة ملكها منيلة وفتح ورشاقة الجسم ولطف الشمائل، محاسن لم تخلعها الآلهة قبلها إلا على سميراميس، ولم تخلعها على بنت سواها بعدها، وكان مما لا معدى عنه أن يلتقي الولدان كل يوم في الفناء المنبسط أمام داريهما، فيتعارفا ويتوادا ويلعبا بالألاعيب الصبيانية البريئة، ولم يكن أهلهما ليروا أمرا غريبا في اجتماعهما ولعبهما معا فقديما ما كان الصبيان والصبيات يجتمعون ويلعبون، ولا يخشى أهلهم محذورا بينهم.
مرت الشهور والسنون، فشب بيرام ونهدت تسبا، وتحول ذاك الود الصبياني من نفسه إلى حب فتوي تؤرث لواعجه عاطفة الفتوة المحتدمة، ويبلوره خيال الشباب اللازوردي الذي لا يقيده عقل، ولا يصقله منطق، وكان هذا الحب يتمكن من يوم إلى يوم حتى ملك على الفتيين قواهما وحواسهما، فكان الواحد منهما لا يقوى على فراق صاحبه هنيهة، وإذا جنهما الليل انصرفا على عناق طويل وقبلة حنون، وانطلق كل إلى سريره وطيف حبيبه يرف عليه بأجنحة الأماني الوردية.
وبقيا على هذه الحال زمنا غير يسير، لا يشعر بهما أحد ولا يدري بهما أهلهما، غير أن النميمة إلهة خبيثة، همها تهديم الآمال وزرع بذور الآلام، مسخ مخيف يبتدئ صغيرا هزيلا يرتجف خوفا على حياته، ولكنه لا يكاد ينطلق حتى ينمو ويقوى، يسير خفيف الرجل سريع الجناح باثا عيونه وألسنته وآذانه الكثيرة في كل مكان، فيتنصت على الأبواب، ويختبئ في الكوى والمنعطفات، لا تنام عيونه ولا تصمت أفواهه، لا في ضياء النهار، ولا في ظلام الليل، حتى تقع عينه على مشهد أو تسمع أذنه خبرا فيسير به مكبرا له ناشرا إياه في كل مكان، هذه الإلهة الخبيثة كانت سبب مأساة بيرام وتسبا، فقد تمثلت في فتاة تدعى أورانيا تصاقب دارها الفناء الذي يجتمع فيه العاشقان معتقدين أن لا رقيب عليهما فيه، فيتبادلان نجاوى الهوى ويبتردان بحر القبل، وكانت أورانيا تشاهدهما كل يوم فأكلت قلبها الغيرة، وكيف يكون لتسبا حبيب جميل كبيرام وهي لا تعلوها في ذروة الجمال؟ فطفقت كلما جلست إلى صديقة لها من بنات الحي تخبرها بعشق بيرام وتسبا، وتعظم لها الأمر، فتنقل تلك الخبر إلى غيرها مكبرا، وهذه إلى أخرى حتى وصل إلى والدي تسبا وبيرام فجن جنونهما؛ لأن ولديهما دنسا الأخلاق البابلية، وداسا تقاليد الشعب البابلي التي لا تأذن لشاب أن يجتمع بفتاة إلا بعد أخذها من سوق الزواج، فأسرع الوالدان إلى حيث قيل لهما إن العاشقين يجتمعان، فأدركاهما يتعانقان عناق فراق على أمل من لقاء. أدركاهما يتبادلان قبلة الحب البريء، فتأثما وخافا الفضيحة والعار، خافا أن يلعنهما البابليون وتغضب عليهم الآلهة، فالتقاليد عندهم شرائع إلهية، والموت جزاء من يستهين الشرائع الإلهية، فأمسك تسبا والدها من شعرها وجرها إلى داره وهو يلعنها، ودفع بيرام والده أمامه وهو يشتمه، وحرما على العاشقين أن يجتمعا أو أن يكلم أحدهما الآخر، منعاهما اللقاء والتشاكي، ولكنهما لم يستطيعا أن يمنعاهما التناجي والكلام بالإشارات من بعد. أرادا أن يخمدا نار ذاك الحب فزاداها اشتعالا، فكان العاشقان كلما ضيق عليهما وأرغما على قمع حبهما وكتم لوعتهما اضطرمت لواعجهما وتأجج لهيب غرامهما.
وكان في الجدار الذي يفصل غرفتي بيرام وتسبا، شق قديم، منذ بني الجدار، لم ينتبه إليه أحد، ولا يعرفه أحد، فلم تشأ إلهة الحب، وهي إلهة ترأف بعبادها وتسهل لهم سبل الوصال، لم تشأ هذه الإلهة الحنون أن يظل العاشقان معذبين ليس لهما إلا التخيل والنجوى، فهدتهما إلى هذا الشق، فكانا يجلسان إليه، كل في غرفته، ويتشاكيان آلام قلبيهما ويغمغمان آيات هواهما، يقعد إلى الجدار كل من جهته، ويتلقى، ملء روحه، أنفاس حبيبه الطيبة على قلبه، ويخاطب الجدار قائلا له: ما أقسى فؤادك يا جدار! وما أصلب كبدك! أيلذك أن تلبث حاجزا بيننا؟ وما يضرك لو تركت جسمينا يجتمعان؟ فإن تكن ترى اجتماعنا كثيرا علينا فاسمح ولا تبخل، بأن نتبادل القبل، ولكن مهما تكن قسوتك علينا، ومهما سددت أذنيك عن شكوانا، فإننا لا ننكر جميلك علينا، فلولاك لم يستطع كلام أحدنا أن يصل إلى أذني صاحبه.
Unknown page