وحبلت ديركيتو، والإلهات يحبلن ساعة يشأن بزواج وغير زواج، ولما تمت أشهرها وضعت إنسية ينبعث النور من بدنها لجمالها الباهر، فبهتت ديركيتو أمامها، وذعرت لأنها ولدت ولدا ليس في شكلها، وخافت أن تعيرها بنات جنسها ويتهمنها بما هي منه براء. فحملتها في ليلة مظلمة إلى البادية وتركتها هنالك على الأرض في قفر بلقع تسوطه الرياح من جهاته الأربع يقرس فيه البرد ليلا ويستحر الحر نهارا، فلبثت تلك الطفلة المسكينة عارية مهملة بين أيدي العناصر الطبيعية.
ولكن بيلوس إله نينوى الأعظم كان يعلم، من قبل، موعد مجيء هذه الطفلة إلى العالم الأرضي، ويعرف ما سوف يكون لها من شأن. وربما كانت بنته تزوج أمها ولم يعلم بذلك أحد، وعلمه بها جعله يرسل الإله ينبو رسوله رقيبا على ديركيتو حتى إذا ولدت طفلتها وألقتها في البادية أرسل إليها ينبو سربا من الحمائم هداهن ببكائها إلى مكانها، فطفق بعضهن يرف عليها بأجنحته ليرد عنها الحر نهارا ويدفئها ليلا، وكانت الحمائم الأخريات ينطلقن إلى حيث ينزل رعيان البدو، فيحملن إليها بمناقيرهن نقطا من الحليب يزققنها بها ليغذينها، وحينما بلغت السن التي تحتاج فيها إلى غذاء أقوى أخذت الحمائم يردن الأمكنة التي يضع فيها الرعيان ما يصنعونه من الجبن، فيأخذن منه مقدار ما يسع منقار كل منهن، وكان الرعيان إذا عادوا مساء يرون جبنهم منقورا فدهشوا، وتركوا منهم في الغد من يرقبه في غيابهم، فرأى الرقيب الحمائم وما يفعلنه فأخبر رفاقه، فتتبعوا الحمائم حتى وصلوا إلى حيث الصبية، فرأوها رائعة الجمال، فحملوها معهم إلى خيامهم، وقر رأيهم على بيعها في نينوى.
وكان للآشوريين موسم يقيمونه في كل سنة لتزويج بناتهم، موسم يتقاطر فيه الشبان والشابات من كل نواحي المملكة، ومن جميع طبقات الشعب إلى العاصمة الآشورية، فتعرض هناك الشابات في ساحة واسعة، ويجتمع الشبان لينتقي كل منهم زوجة، أو ينتقي صبية يحملها إلى داره فيربيها إلى أن تبلغ سن الزواج فيتزوجها.
وكان الشبان الأغنياء يتقدمون أولا، ويتزايدون في أثمان الحسان، فتكون الحسناء عرسا لمن ترسو عليه الزيادة الأخيرة، ولا تدفع أثمان الجميلات إليهن ولا إلى أهلهن، وإنما تعطى بائنات للشابات القبيحات فيحملنها إلى متوسطي الحال والفقراء، فهؤلاء لم يكن يهمهم الجمال، وإنما كان يهمهم ما تحمله الزوجة من المال، ولا تسلم بنت إلى شاب إلا على ضمان تزوجه بها.
حمل الرعاة الصبية الحسناء إلى نينوى، وكانوا قد سموها سميراميس أي حمامة لرؤيتهم الحمائم يغذينها. ووافق وصولهم إلى المدينة يوم موسم الزواج وقد غصت ساحة عرض الحسان بالشيوخ والكهول والشبان، كل يطلب حسناء جميلة تملأ بيته حبا وحياة، فشاء الرعاة أن يخترقوا الجماهير ليدخلوا سميراميس إلى الساحة فلم يستطيعوا. وفيما كانوا يحاولون ذلك شاهدهم «سيما» ناظر مرابط خيول الملك، وشاهد الصبية الصبيحة الوجه المتلألئة الجمال. وكان سيما عقيما لا أولاد له فهفا قلبه إلى سميراميس، وشاء أن يتبناها، فدعا إليه الرعاة وساومهم على ثمنها، وحملها إلى منزله وسلمها إلى زوجته، فكانت هذه تحبها وتعتني بها كأنها بنت أحشائها حتى ترعرعت وتفتقت أزهار محاسنها، وبرزت معاني جمالها.
وفي أحد الأيام جاء منيوتس كبير قواد الملك نينوس، ملك نينوى، إلى مرابط الخيول ليتفقد خيول الملك، فشاهد سميراميس قاعدة قربها، فوقف ينظر إليها معجبا ببهائها والنور المنبعث من وجهها، فرنت إليه سميراميس بمقلتين فاترتي النظر يترقرق السحر فيهما، فاستطير عقله ولم يتمالك أن دعا إليه سيما وسأله عنها، فأخبره سيما خبرها، فطلبها القائد زوجة له وأغلى مهرها. ثم حملها إلى قصره وسلمها إلى المزينات والمواشط ليتواصين بها، وأخرج لها من خزائنه من حلي وجواهر ما لا يوجد مثله إلا في كنوز الملوك. فأخذتها النساء إلى الحمام وغسلن بدنها بالماء المعطر ومشطن شعرها الأسود الطويل، وسدلنه على كتفيها خصلا معقدة بالجواهر، ثم ألبسنها الأرجوان الفينيقي الموشى بالذهب والمحلى بالجوهر، وأخرجنها للقائد عروس الجمال والفتون والأناقة.
وكان منيوتس قد أمر بتهيئة أداة العرس فتزوجها، وجعل لها المقام الأسمى بين نسائه وحظياته، وكان يلازمها ملازمة ظلها لها ولا يطيق البعاد عنها، فكانت تزيد فتونه بها بدلها الخفر وتسبيه بذكائها وعذوبة منطقها.
ذهب القائد ذات يوم مع الملك إلى حرب رجع منها الملك مظفرا، فخرج أهل المدينة للقائه، وبرزت النساء يعزفن بالمعازف ويزغردن فرحا، وحملت سميراميس نفسها على محفة يرفعها أربعة من العبيد السود وتسايرها فيها وصيفتان صبيحتا الوجه ناعمتا البشر، هذه راكعة وراءها تروح لها لترد عنها لذعات الشمس، وتلك ساجدة أمامها تلبي رغباتها.
وكان الملك على مركبته الذهبية تجرها جياد الخيل، يخفق فوق رأسه العلم الآشوري، ويسير إلى جانبه على فرس القائد منيوتس، وتحيط بهما كوكبة من القواد، فحانت من الملك التفاتة فوقعت عينه على سميراميس في محفتها، وكانت في اتكاءتها على المساند الحريرية، والتفاتتها، وزينتها، وتألق طلعتها، أغرى ما تكون امرأة وأسلبها للعقول، فعلقت عينا الملك عليها، وأحست به فرنت إليه في دلال وفتور، فأصابت مقلتاها مكان الشغاف من قلبه، فالتفت إلى القائد منيوتس وسأله: من تكون هذه المرأة؟ فشعر منيوتس بدنو الكارثة، وأدرك أن سميراميس حلت في عيني الملك، فصمت على ألم متظاهرا بأنه لم يسمع، فكرر الملك السؤال فلم ير القائد مناصا من الجواب؛ لأن الملك متى أراد شيئا لا يمكن أحدا مخالفته، والويل لمن يخالفه، فأجاب: هذه زوجتي يا مولاي.
دخل الملك قصره وتفرق الجند والناس، فأرسل إلى منيوتس يقول له: إن سميراميس حلت في عيني الملك فهو يريد أن يراها في قصره بين محظياته، فصعق القائد ولبث حائرا لا يدري ما يفعل، ورأت سميراميس حاله فأشارت عليه أن يلبي رغبة الملك وهي تسعى في البلاط بما أوتيت من فطنة ودهاء لعلها تقنع الملك بإرجاعها إليه، فنزل القائد عند إشارتها حزينا يائسا، ولما أبصرها خارجة من القصر في محفتها تشع كالكوكب اسودت الدنيا في عينيه وضاع عقله، فاستل سيفه واتكأ بصدره على رأسه فخرج من ظهره، وسقط يتشحط بدمائه.
Unknown page