وأخيرا فإن الطرف الثالث في الموقف النقدي - وهو الجمهور المثقف - كثيرا ما يستسلم بدوره للانفعالات، حين يجد نفسه حكما في قضية نقدية، ويسلك على نحو ينم عن الافتقار التام إلى فهم دلالة النقد ودور القارئ الواعي إزاءه؛ فالحجج الانفعالية والأسلوب الخطابي لهما فيه تأثير يفوق بكثير تأثير الحجج الهادئة المتزنة المرتكزة على المنطق السليم، وكثيرا ما تتردد على لسان الجمهور تعبيرات تدل على أن أهم المعايير التي يرتكز عليها - في حكمه على القضية موضوع البحث - هي الشفقة، أو «مراعاة السن»، أو عوامل الإخلاص والوفاء، وكلها مشاعر شخصية لا ينبغي أن يكون لها اعتبار في أحكامنا العلمية. ومجمل القول أن استجابة الجمهور المثقف للمعارك النقدية كثيرا ما تكون مشابهة لاستجابة جمهور الكرة للمباريات؛ فهو يصفق ويهلل ويستهويه كل ما هو مثير، أما الحقيقة المجردة فلا يهتم بها أحد.
نحن إذن ما زلنا بعيدين كل البعد عن أصول الأخلاق العلمية كما توطدت دعائمها وتأكدت في البلاد ذات التقاليد العلمية الراسخة، فما زالت كثرة غالبة من المشتغلين بالعلم بيننا تخلط - على نحو مؤسف - بين الأمور الذاتية والأمور الموضوعية، وما زالت هذه الكثرة الغالبة عاجزة عن إدراك الفارق الواضح الحاسم - الذي سبقتنا إلى إدراكه كل أمة ناهضة - بين العلاقات والمشاعر والانفعالات الشخصية وبين الحقائق اللاشخصية التي تؤلف بناء العلم.
ومن المؤكد أن الوعظ وحده لن يستطيع أن يصلح من هذا الوضع شيئا، فإذا كنا نعيب على الجو العلمي السائد بيننا افتقاره إلى الأخلاق العلمية، فليس معنى ذلك أننا ندعو إلى إصلاح أخلاق المشتغلين بالعلم عن طريق «الدعوة» أو «التوعية» أو غير ذلك من الوسائل التي لا تجدي في هذا الميدان، بل إننا نعتقد اعتقادا راسخا بأن ارتفاع مستوى الأخلاق العلمية أو هبوطه يرجع إلى أسباب موضوعية لا تقوم فيها النزاهة الفردية للعالم ذاته إلا بدور ضئيل.
فالتقاليد العلمية السليمة قد أرسيت في البلاد التي توطدت فيها دعائمها على قاعدتين متينتين: قاعدة رأسية، وأخرى أفقية.
أما القاعدة الرأسية فهي قدم العهد بممارسة العلم ورسوخ مبادئه وقيمه في أذهان أجيال متعاقبة من المشتغلين به، والنتيجة الحتمية لذلك هي أن حداثة عهدنا بممارسة العمل العلمي تحتم ظهور نوع من التراخي في الأخذ بالقيم الأخلاقية، صحيح أن لنا تاريخا قديما في الاشتغال بالعلم، قد يرجعه البعض إلى أيام ازدهار الحضارة العربية، وقد يرتد به البعض الآخر إلى ما قبل ذلك بكثير، ولكن هذا التاريخ لا يتصل بالحاضر اتصالا مباشرا، وإنما حدثت فترة انقطاع طويلة بدأت بعدها حركة إحياء العلم تشق طريقها - منذ عهد قريب - وكأنها تبدأ من جديد، وهكذا أصبحنا نفتقر إلى ذلك التراث المتصل من القيم والمبادئ الذي يتوارثه جيل عن جيل، والذي يزداد رسوخا في النفوس كلما قدم به العهد، ومن المؤكد أن أية دولة ذات تقاليد علمية وطيدة الأركان قد شهدت في بداية عهد نهضتها العلمية تهاونا في الأخذ بأصول الأخلاق العلمية لا يختلف كثيرا عما نعاني منه في أيامنا هذه؛ فالأمر - في هذه الحالة - لا يرجع إلى عيوب كامنة في شعوب معينة بقدر ما يرجع إلى واقع موضوعي يتجاوز الخصائص المميزة لشعب عن شعب آخر.
وأما القاعدة الأفقية فهي اتساع نطاق المشتغلين بالعلم في البلاد ذات التقاليد العلمية الراسخة، هذه الكثرة العددية البحتة عامل عظيم الأهمية من عوامل إقرار القيم الأخلاقية العلمية في البلاد المتقدمة؛ إذ إنها تسد الطريق أمام أية محاولة لاغتصاب جهود الغير في الميدان العلمي، فحتى لو وجد الشخص الذي تسمح له أخلاقه بأن ينتحل لنفسه ثمار جهد غيره، فلا بد لمثل هذا الشخص من أن ينكشف؛ إذ سيظهر في مكان ما - من بين الأعداد الهائلة التي تعمل في مختلف فروع التخصص - من يكتشف هذه السرقة العلمية.
وبطبيعة الحال فإن العامل السابق لا يمكن أن يكون عاملا فعالا لو لم يتوافر شرطان أساسيان يدعمان تأثيره: أولهما أن هذه القاعدة العريضة من المشتغلين بكل فرع من فروع العلم تضم عددا كبيرا من الباحثين الذين توافر لهم من الفراغ ومن مصادر المعرفة ما يسمح لهم بالاطلاع المستمر على الإنتاج القديم والحديث في ميادين تخصصهم، وهو أمر لا يمكن القول إنه قد تحقق في حياتنا العلمية بعد، وثانيهما أن عقوبة الخروج عن التقاليد العلمية في هذه المجتمعات صارمة حازمة؛ فمخالفة الأخلاق العلمية - حتى لو حدثت على نطاق أضيق بكثير مما يشيع حدوثه بيننا - كفيلة بأن تقضي على المستقبل العلمي للمرء قضاء مبرما.
فالأخلاق العلمية إذن وليدة ظروف موضوعية تهيأت للمشتغلين بالعلم في بلاد معينة، ولم يتهيأ ما يناظرها في بلادنا بعد، ومع ذلك فمن الواجب أن نتذكر أن الأخلاق في هذا الميدان - كما في غيرها من الميادين - تتحول بمضي الزمن إلى مبادئ ذاتية يدين بها المرء دون أن يفرضها عليه أي قهر خارجي؛ ففي البداية تؤدي العوامل الموضوعية بالمرء إلى أن يسلك بمقتضى القواعد الأخلاقية سواء شاء أم لم يشأ. ثم يحدث بالتدريج تحول لهذه القواعد إلى باطن الذات، حتى تكون جزءا من «الضمير الأخلاقي» للمرء، بحيث تمارس تأثيرها دون أي ضغط أو إكراه خارجي، ومن المؤكد أن نسبة كبيرة من المشتغلين بالعلم في البلاد المتقدمة أصبحوا يطبقون القواعد الأخلاقية العلمية بوازع من ضمائرهم وحدها، دون خوف من أن يفتضح أمرهم، أو رهبة من عقوبة توقع عليهم.
ومن الطبيعي أن الشروط المهيئة لتكوين مثل هذا «الضمير العلمي» لم تتوافر كلها في بلادنا بعد؛ فالمشتغلون بالعلم ما زالوا قلة، وما زالت فرص ارتكاب الأخطاء الخلقية في هذا المجال، دون خوف من الانكشاف، كثيرة، وبالتالي فنحن ما زلنا بعيدين عن تلك المرحلة التي تتحول فيها القاعدة الأخلاقية الموضوعية إلى قاعدة ذاتية يطبقها المرء على نفسه بوحي من ضميره فحسب.
وإلى أن نبلغ هذه المرحلة، لا بد لنا من أن نأخذ الأمور مأخذ الحزم والحسم، ولا بد لنا من أن نقلع عن هذا التهاون والتراخي الذي يجعل أشد الفضائح العلمية هولا يمر دون أن يثير استنكار الناس أو اشمئزازهم، ودون أن تحل على مرتكبه جزاءات معنوية أو مادية .
Unknown page