إن التهاون في ميدان الأخلاق العلمية يؤدي إلى مزيد من التراخي والتساهل بين الأجيال المقبلة، حين لا تجد حولها سوى أسوأ أمثلة السلوك حتى في ميدان العلم ذاته، وعلينا - قبل أن يفوت الأوان - أن نتدارك الأمر حتى لا يأتي يوم نجد بيننا وبين بلاد العالم المتقدمة فارقا في الأخلاق العلمية يزيد عن ذلك الذي يفصل بيننا وبينها في ميدان العلم ذاته، فنقف عندئذ يائسين من اللحاق بركب التطور حتى في ميدان الأخلاق والمعنويات، ذلك الميدان الذي كنا نتباهى على الدوام بأن لنا فيه تاريخا طويلا وتقاليد راسخة، والذي كنا نعزي أنفسنا دوما بأنه خير ما يعوضنا عن تخلفنا في مجال «الماديات».
اشتراكية العالم الثالث: نظرة نقدية1
في كثير من المواقف الحاسمة في حياة الفرد يتساءل المرء إن كانت التجربة المباشرة - التي قد تقترن بالعذاب والمعاناة - تستحق كل ما يبذل فيها من عناء، ويتمنى لو أتيحت له فرصة يتجنب فيها معاناة التجربة بنفسه، ويفيد من تجارب الآخرين على نحو يؤدي به إلى بلوغ الهدف المنشود مباشرة، دون حاجة إلى ممارسة كل تجربة بنفسه، ومع ذلك فإنه حين يمعن الفكر سوف يتبين له - على الأرجح - الوجه الآخر من المشكلة، وهو أن المعاناة والممارسة يمكن أن تكون هدفا في ذاته، وأن تحقيق المرء لهدفه بعد أن يمر بتجربة زاخرة غنية، يختلف اختلافا كليا عن بلوغه هذا الهدف بأقصر الطرق، وعن طريق الإفادة من تجارب الآخرين، صحيح أن طريقه في الحالة الأولى سيكون أبطأ وأشق، ولكن ثراء التجربة وسلوكها مجراها الطبيعي وعمق الدروس التي يتعلمها المرء منها، لا بد أن يعوضه خير تعويض عن كل ما عاناه في سبيل اكتساب تجربته الخاصة من مشقة.
وفي اعتقادي أن انتقال مجتمعات العالم الثالث إلى الاشتراكية يثير هذه المشكلة ذاتها، ولكن على الصعيد الاجتماعي لا الفردي؛ ففي اللحظة التي تقرر فيها هذه المجتمعات أن تأخذ بالنظام الاشتراكي، يتعين عليها أن توجه إلى أنفسها هذا السؤال الحاسم: أيهما أجدى بالنسبة إلى مستقبل المجتمع على المدى البعيد؛ أن يمر المجتمع بجميع المراحل التي تجعل الانتقال إلى الاشتراكية أمرا طبيعيا؟ أم أن يختصر هذه المراحل وينتقل مباشرة إلى الاشتراكية، مستعينا على هذا الانتقال بالإفادة من تجارب المجتمعات الأخرى التي سبقته في هذا المضمار؟
والأمر الذي لا شك فيه أن تصميم مجتمع متخلف على أن يأخذ بالنظام الاشتراكي، يعني أنه قد أخذ بالحل الثاني، وقرر أن يسلك إلى الاشتراكية طريقا مختصرا، والواقع أن المسألة - بالنسبة إلى المجتمعات المتخلفة - ليست مسألة اختيار بين طريق الممارسة والتجربة المباشرة وطريق الإفادة من تجربة الغير؛ إذ إن التخلف لا يترك لهذه المجتمعات مجالا للاختيار، ومع ذلك فإن من واجب أي مجتمع يتخذ هذا القرار أن يدرك عن وعي طبيعة التحول الذي سيطرأ عليه حين يأخذ بالنظام الاشتراكي، والفرق بين هذا النظام حين يطبق في مجتمع متخلف، وبينه حين يطبق في مجتمع صناعي متقدم، والالتزامات التي تترتب على وجود هذا الفرق بالنسبة إلى طبيعة التطبيق الاشتراكي في البلد المتخلف.
إن النظرة الكلاسيكية إلى الاشتراكية كما كانت سائدة في القرن التاسع عشر، أعني في عصر التفكير النظري، متميزا عن عصر التطبيق والتجارب العملية المتعددة في القرن العشرين، تجد غرابة - وربما استحالة - في الانتقال من التخلف إلى الاشتراكية قفزة واحدة؛ ذلك لأن الاشتراكية - في وجهها الكلاسيكي - هي رد فعل على الرأسمالية، صحيح أن الرأسمالية تعد مرحلة ممهدة لظهور الاشتراكية، ولكنها مع كونها ممهدة لها، هي مرحلة لا غناء عنها من أجل قيام الاشتراكية، بل من أجل مجرد تصورها.
إن النموذج التقليدي للثورة الاجتماعية هو ذلك الذي تنبثق فيه الاشتراكية من قلب النظام الرأسمالي؛ فالاشتراكية - تبعا لهذا النموذج التقليدي - ليست بديلا عن الرأسمالية فحسب، بل هي مرحلة أعلى في تطور اجتماعي متصل، تضم في داخلها الصفات الإيجابية للنظام الرأسمالي، وتتجاوز هذا النظام مع كونها منطوية على أفضل ما فيه، أما اشتراكية العالم الثالث فلا تتجاوز الرأسمالية؛ لأن كثيرا من بلاد العالم الثالث تختار الطريق الاشتراكي دون أن تكون قد مرت بمرحلة توافرت فيها أهم عناصر النظام الرأسمالي، ولا سيما وجود تصنيع متقدم وطبقة عاملة واعية بذاتها وبوضعها الاجتماعي، ومعنى ذلك أن اشتراكية العالم الثالث ليست تجاوزا للرأسمالية، بل هي بديل عنها، أو بعبارة أخرى فإن مجتمعات العالم الثالث تقف في مفترق طريقين: أحدهما طريق الرأسمالية والآخر طريق الاشتراكية، وهي لا تلجأ إلى الطريق الثاني بعد أن تكون قد جربت الطريق الأول وسارت فيه حتى المرحلة التي لا يعود من الممكن فيها التوفيق بين متناقضاته، بل هي تلجأ إليه منذ بداية وعيها بأهمية التصنيع، وتحاول أن تضفي على تطورها - حتى في أول مراحله - طابعا اشتراكيا.
ومن المؤكد أن الاشتراكيين لم يكونوا على خطأ - من الوجهة النظرية - عندما تصوروا الاشتراكية على أنها رد الفعل على الرأسمالية بعد أن تصل هذه الأخيرة إلى قمة التناقض والتمزق الداخلي، أي عندما أكدوا أنه لا قيام للاشتراكية بدون مرحلة رأسمالية مكتملة العناصر تسبقها وتمهد لها الطريق؛ ذلك لأن الاشتراكية تستطيع أن تتعلم من الرأسمالية الكثير؛ ففي الرأسمالية يتحول الإنتاج إلى مرحلة الترشيد الدقيق، وتكتسب عادات الدقة والنظام والانضباط والإفادة الكاملة من كل الطاقات، وإذا تركنا جانبا نواحي الاستغلال في المجتمع الرأسمالي، فمن المؤكد أن هذا المجتمع يحرز تقدما لا تستطيع الاشتراكية أن تتجاهله، بل إن عليها أن تستوعبه في داخلها استيعابا كاملا، وتعمل بعد ذلك على تجاوزه بتصفية العلاقات الإنتاجية من كل آثار الاستغلال. وبعبارة أخرى فإن الصورة النموذجية للثورة الاشتراكية - في علاقتها بالنظام الرأسمالي - هي في صميمها صورة جدلية، لا يعمل الجديد فيها على استبعاد القديم والحلول محله ، بل يمتص في داخله ذلك القديم ويستخلص منه كل عناصره الإيجابية، ثم يعمل على دفعه إلى الأمام في صورة جديدة كل الجدة، وفي ظل علاقات مغايرة تماما للعلاقات القديمة.
ولقد كان أقطاب التفكير الاشتراكي في القرن التاسع عشر على وعي تام بهذه الحقيقة، وتجلى ذلك الوعي واضحا في موقفهم المزدوج من الرأسمالية؛ فالرأسمالية كانت في نظرهم - من جهة - مرحلة تقدمية إذا قيست بالمراحل السابقة لها، ومرحلة رجعية إذا قيست بالتطور المنتظر للمجتمع في ظل الاشتراكية، وكانت القوى الرأسمالية والبورجوازية تمثل في نظرهم قوى الثورة والتقدم في مرحلة الصراع بينها وبين النظام الإقطاعي، كما كانت العقلية الرأسمالية هي التي تدفع المجتمع إلى الأمام في الفترة التي كان فيها النبلاء والإقطاعيون يحرصون على التمسك بعاداتهم وتقاليدهم وامتيازاتهم العتيقة البالية، ولا تتحول الرأسمالية في نظرهم إلى عامل من عوامل التخلف إلا حين يستتب لها الأمر، وحين تصبح مقاليد الحكم في أيدي البورجوازيين يسيطرون على نظم المجتمع وقوانينه، ويتحكمون في الرأي العام ويوجهون أفكاره لصالحهم، فيبذلون طاقتهم من أجل المحافظة على الأوضاع الراهنة، والإبقاء على استغلالهم للطبقات العاملة، ومعنى ذلك أن الرأسمالية مرحلة ضرورية في الطريق الذي يوصل آخر الأمر إلى الاشتراكية، وأن الاشتراكية لا يمكنها أن تتحقق إلا في مجتمع مر بالتجربة الرأسمالية، وسار فيها حتى أبعد مراحلها، أعني حتى المرحلة التي استنفدت فيها الرأسمالية - من حيث هي نظام متقدم - أغراضها، وأحالتها متناقضاتها الصارخة إلى نظام رجعي لا بد من تجاوزه.
على أن تجربة العالم الثالث قد أثبتت أن هذا النمط الكلاسيكي للتحول إلى الاشتراكية ليس هو النمط الوحيد، وأن الاشتراكية يمكن أن تظهر، لا بوصفها رد فعل على الرأسمالية، بل بوصفها بديلا عنها في مجتمعات لم تعرف النظم الرأسمالية بمعناها الدقيق، أعني في بلاد متخلفة لم تمر إلا بالمراحل الأولى للتصنيع، ولم تتحدد فيها العلاقات بين أصحاب العمل والطبقة العاملة وفقا للنماذج الرأسمالية المألوفة، بل إننا لو أخذنا في اعتبارنا ذلك التخلف الذي كانت تتسم به المجتمعات التي ظهرت فيها الثورات الاشتراكية الكبرى في القرن العشرين - وعلى رأسها روسيا القيصرية والصين - لأمكننا القول إن جميع التجارب الفعلية للتحول إلى الاشتراكية لم تكن منتمية إلى النمط الكلاسيكي انتماء كاملا، والاستثناء الوحيد من هذا الحكم هو حالة تشيكوسلوفاكيا، ومع ذلك فإن هذا الاستثناء يؤيد ويثبت القاعدة التي تقول إن التحقق الفعلي للتحول إلى الاشتراكية لم يحدث بنجاح إلا في بلاد لم تمر بالمرحلة الرأسمالية في صورتها المتقدمة؛ إذ إن الكثيرين يعزون المتاعب التي واجهتها التجربة الاشتراكية في تشيكوسلوفاكيا إلى هذه الحقيقة بالذات، أعني إلى أن تشيكوسلوفاكيا هي البلد الوحيد الذي بدأت فيه الاشتراكية على قاعدة رأسمالية قوية في مجتمع صناعي متقدم، ولكن حتى لو كان من الصحيح أن التجارب الناجحة في التحول إلى الاشتراكية قد حدثت في بلاد تتسم كلها بالتخلف، ولا يمكن أن توصف بأنها بلاد صناعية بالمعنى المتقدم لهذه الكلمة، فإن هذا التخلف متفاوت في الدرجة إلى حد يسمح لنا بتمييز بلاد العالم الثالث على أساس أنها فئة قائمة بذاتها؛ لأنها أولا تتسم بقدر كبير من التخلف؛ ولأنها ثانيا كانت إلى حد قريب خاضعة لنفوذ استعماري، أي إنها لم تنل استقلالها إلا حديثا، وكما هو واضح فإن هاتين الصفتين - أعني التخلف الشديد والخضوع طويلا للاستعمار - مرتبطتان ارتباطا وثيقا.
Unknown page