Aqwam Masalik
أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك
Genres
وقد آن أن نبين أصول تنظيماتهم السياسية التي هي أساس التمدن والثروة المشار إلى بعض آثارهما آنفا، فنقول: اعلم أن الأمم الأوروباوية لما ثبت عندهم بالتجارب أن إطلاق أيدي الملوك ورجال دولهم بالتصرف في سياسة المملكة دون قيد مجلبة للظلم الناشئ عند خراب الممالك، حسبما تحققوا ذلك بالاطلاع على أسباب التقدم والتأخر في الأمم الماضية، جزموا بلزوم مشاركة أهل الحل والعقد الآتي بيانهم في كليات السياسة مع جعل المسئولية في إدارة المملكة على الوزراء المباشرين، وبلزوم تأسيس القوانين المتنوعة عندهم إلى نوعين؛ أحدهما: قوانين الحقوق المرعية بين الدولة والرعية، والثاني: قوانين حقوق الأهالي فيما بينهم. فمرجع الأول إلى معرفة ما لصاحب الدولة وما عليه، ويندرج تحته أمور منها حرية العامة الكافلة بضمانة حقوقهم، ومنها تعيين أصول تصرفات الدولة جمهورية كانت أو وراثية، كتنفيذ القوانين الحكمية وإدارة السياسة الداخلية والخارجية كعمل الحرب وعقد شروط الصلح والتجارة وتعيين الوظائف ونصب المتوظفين من الوزراء وغيرهم، وتأخير من لم تكن وظيفته مؤبدة (وإنما عبرنا بالتأخير لأن عزل المتوظف عن الخطة التي أفنى أطيب عمره في خدمة المملكة لنيلها عزلا يقتضي طرحه من خدمتها بالمرة لا يكون إلا بذنب يثبت لدى مجالس الحكم بمقتضى القوانين)، وكذا صرف المجابي لما عينت له، إلى غير ذلك من إدارة المملكة بما لا يخرج عن مقاصد قوانينها، كل ذلك من حقوق صاحب الدولة بإعانة وزرائه وتأسيس أصول هذا النوع يكون في دولة فرنسا بموافقة غالب رشداء أهل المملكة المتصرفين في حقوقهم الخصوصية والسياسية، وفي غيرها يزاد على الشرط المذكور إما العلم أو ملك عليه مبلغ محدود من الأداء أو الوجاهة المسماة عندهم ب «النوبليس»، وموافقتهم إما بأنفسهم أو بواسطة وكلاء ينتخبونهم لذلك. والنوع الثاني القوانين المحررة لفصل نوازل السكان والتسوية بينهم في المجابي والمنح بحسب المكاسب والاستحقاق، إلى غير ذلك من أحوالهم الداخلية، وتأسيس هذا النوع أو تبديله بما هو أليق بالحال يكون بموافقة المجلسين؛ أعني المجلس الأعلى المركب من أمراء العائلة الملكية وممن ينتخبه الملك من أعيان المملكة مؤبدا وظيفته، ومجلس الوكلاء المركب ممن ينتخبهم الأهالي للمناضلة عن حقوقهم والاحتساب على الدولة، فأهل هذين المجلسين هم أهل الحل والعقد عندهم، فكل ما وافقوا عليه مما لا يخالف تلك الأصول اللازم فيها مشاركة العامة يصير من شرائع المملكة.
وأما مسئولية الوزراء فمعناها: أن يكونوا تحت احتساب مجلس الوكلاء مباشرة كما هو موجود في سائر الممالك الكونستيتوسيونية ما عدا الدولة الفرنساوية اليوم، فإن وزراءها مسئولون للملك وهو مسئول للمجلس. ومن آثار المسئولية المذكورة أن أمور الإدارة المتقدم أنها من حقوق صاحب الدولة يتوقف إنجازها على إجازة الوزراء، بحيث لا يبرم أمرا منها حتى يستشيرهم، وأنهم لا يمكنهم البقاء في الخدمة إلا إذا كان غالب أعضاء مجلس الوكلاء موافقا في سياستهم، فعلم أن المجلسين المذكورين لا يتداخلان في تفاصيل الإدارة، وإنما دأبهما وضع القوانين وحفظها بالاحتساب على الدولة. ومن أعمالهما عند الاجتماع النظر وإعطاء الرأي فيما يعرض على كل منهما من النوازل المهمة الداخلية والخارجية، وسؤال الوزراء عما يظهر لهما متى شاءا، والقدح في سيرتهم خصوصا مجلس الوكلاء، وعلى الوزراء الجواب عن جميع ذلك. وتقع المجادلة بالمجلس علنا بين القادح والمدافع ليتضح الحال ويظهر المصيب من المخطئ. فإذا اتفق غالب مجلس الوكلاء على تصويب سياسة الوزراء بعد التأمل في أدلة القادح والمدافع؛ تيسر للوزراء البقاء في الخدمة، وتحصل حينئذ فائدة الدولة والمملكة، أما الدولة فبكون المجلس لا يتوقف بعد ذلك في أن يسوغ لها أخذ ما تقتضيه المصلحة من المال والرجال؛ لأن من وافق على المصلحة وعلى حسن سيرة مباشرها لا يمتنع من إعطاء ما يلزم لإنجازها، وأما فائدة المملكة فبثبوت استقامة سيرة المباشرين لمصالحها، فيهون عليها صرف أموالها ودماء أبنائها حيث كان فيما يعود بالنفع عليها، وبمثل هذا يستقيم حال الدولة والمملكة، ولو كان الملك أسير الشهوات أو ضعيف الرأي كما تقدم. وأما إذا اتفق غالب المجلس على عدم استحسان سياسة الوزراء فيجب على الملك عند ذلك أحد أمرين؛ إما تبديل الوزراء المشار إليهم أو حل مجلس الوكلاء، على أن يعيد الأهالي الانتخاب في مدة معلومة، فإذا انتخبوا من يكون أشهر باللين والمساعدة للدولة دل ذلك على رضاهم بسياستها، فيبقى الوزراء على خططهم، وأما إذا انتخبوا الأولين أو من يكون مثلهم في الشدة فيستدل بذلك على عدم رضاهم بها، ويجب حينئذ خروج الوزراء من الخدمة، وتعويضهم بمن سياسته ترضي المجلس. وللمجلس المذكور أن يدعي الخيانة على أحد الوزراء أو مجموعهم إذا رأى أدلة ذلك، وتكون نازلة تفصل بالمجلس الأعلى. وظاهر أن الوزراء المشار إليهم كما تشدد عليهم القوانين المسئولية عن تصرفاتهم تمنع التعدي عليهم في النفس والعرض والمال، فيتيسر للنجيب الأمين منهم إجراء الأمور على مواقع المصلحة والفوز بما يستعقبه ذلك من جميل الثناء، ولمن اتصف بالأمانة دون النجابة الخروج بالسلامة لا له ولا عليه. وبما تقدم يعلم أن سلطة المجلسين تتحد تارة وتفترق أخرى؛ إذ لكل منهما أعمال تخصه وأعمال يشارك فيها الآخر.
غير أن المعتبر في تأسيس القوانين، سيما المتعلقة بالمجابي والقوة العسكرية وفي الاحتساب على الدولة واستحسان سياسة الوزراء، وضده اللذين ينبني عليهما خروجهم أو بقاؤهم في الخطة؛ هو ما يتفق عليه غالب مجلس الوكلاء حسبما أشير إليه قريبا، كما أن إجراء القوانين المذكورة يتوقف على موافقة المجلس الأعلى على كونها غير مخالفة لأصول الكونستيتوسيون.
قلت: فبتقرير ما ذكر يعلم أيضا أن صاحب الدولة عندهم مضطر إلى موافقة إرادة المجلس التي هي في الحقيقة إرادة أهل المملكة، ولا يخفى ما يتبادر فيه من التشديدات التي تأباها نفوس غير المنصفين من الأمراء والوزراء، لكن من بخت الأمم الأوروباوية ونجاح مساعيها الدنيوية أن عرف ملوكها ووزراؤها ما ينشأ عن ذلك من الفوائد الجمة التي منها كف أيدي المأمورين عن التعدي على الرعية، ومنها سهولة اعتبار المكاسب في توزيع الأداء على الأهالي بحيث لا ينقص من رءوس أموالهم؛ إذ لا يتم مع ذلك نمو العمران، ومنها أن الرعايا إذا وافق وكلاؤها على أصل المصلحة فإنها لا تشح بإعطاء ما يلزم لإنجازها كما تقدم، ومنها أن المفسد لا يجد مساغا للقدح في تصرفات الدولة بقصد التنفير منها وتغيير القلوب عليها، ومنها أن الوالي المستبد ولو كان عادلا لا يمكنه الاطلاع على أحوال مملكته إلا بواسطة الوزراء وغيرهم من المتوظفين، الذين أثبتت التجارب أن أكثرهم لا يعرفون الولاة إلا بما تقتضيه فوائدهم فيتوصلون بالنصائح العمومية إلى أغراضهم الشخصية، خصوصا من يشير منهم على الملوك بالاستبداد لما له في ذلك من المعونة على حصول استبداده هو أيضا في مأموريته. على أنه يمكن لنا أن نقول: إن المأمورين في دولة الاستبداد كل واحد منهم مستبد على قدر حال مأموريته. فلهذه الفوائد ونحوها تجشم الملوك والوزراء ما في التقييد في مبدأ الأمر من المرارة نظرا لما يستعقبه من لذة السطوة والحضارة، وقد صح حدسهم في ذلك بما لم نزل نشاهده من تقدمهم في العلوم والصناعات واستخراج كنوز الأرض بالزراعة والبحث عن المعادن، وحصولهم من أمثال هذه المذكورات الناتجة من اتحاد الراعي والرعية على ما قوى حاميتهم في البر والبحر، حتى هابتهم الأمم واستولوا على ممالك كثيرة خارجة عن قسم أوروبا، ونالوا من نفوذ الكلمة في غير ممالكهم ما هو مشاهد، وصاروا في التصرفات الدنيوية قدوة لغيرهم، وما ذاك إلا بإجراء القوانين السياسية التي مدارها على ما تقتضيه الحرية المشروحة سابقا من حفظ حقوق الإنسان في نفسه وعرضه وماله، والاتحاد في جلب المصالح ودرء المفاسد بمراعاة العادات والأمكنة والأزمنة التي تعتبر شريعتنا اختلاف أحكامها اعتبارا كليا. ولتلك القوانين في الممالك الأوروباوية من الاحترام واستمرار النفوذ برعاية أهل الحل والعقد ما يحمي حقوق الرعية وحريتها، ويؤمن الضعيف من بطش القوي ويدفع عن المظلوم سلطة الظالم، مثل ما كان لأمة الفرس التي طال ملكها ودام حديث عدلها إلى الآن، وشهد لبعض ملوكها بالعدل سيدنا الصادق
صلى الله عليه وسلم ، ومثل ما كان لأمة الرومان التي استولت على غالب جهات المعمور، حتى كان يقال لها في ذلك الوقت كرسي ممالك الأرض، ومثل ما كان لأمة اليونان التي لما استولى العدو على بعض بلدانهم ولزمهم الخروج منها سألوا حكيما لهم: أين تصلح السكنى؟ فقال لهم: في بلد تكون الشريعة فيه أقوى من السلطان ... إلى غير ذلك من الأمم التي ما بلغت غاية الاستقامة إلا باحترام قوانين أحكامها المؤسسة على العدل السياسي، كما أن عدم احترامها كان منشأ رجوعهم القهقرى، ولا يتوهم أن ذلك بسبب بركة في شرائع الأمم المذكورة؛ إذ الواقع أنها قوانين عقلية مبنية على مراعاة الوازع الدنيوي، فإذا انضم إلى ذلك وجود البركة والحرمة الإلهية كما هو حال شريعتنا المطهرة كانت المخالفة مع ما تستعقبه من النكال الأخروي أجلب للانحطاط الدنيوي، ومن تتبع تواريخ الأمم المشار إليها وتواريخ الأمة الإسلامية رأى ذلك عيانا.
هذا، وإن الضرورة قد تدعو إلى تفويض إدارة المملكة لشخص واحد مستبد، لكن لغاية محدودة وبشروط عندهم معهودة، وذلك أن من أصول السياسة المأثورة عن الأمة الرومانية أن المملكة إذا اشتد الخطر عليها إما بكثرة الإفساد الداخلي أو بظهور مخائل التغلب عليها من الخارج، وصعب حسم مواد ذلك بالأعمال القانونية لمكان تعدد الأنظار المتساوية، وما عسى يقتضي الترجيح بينها من طول المفاوضة المفضي إلى عدم قمع المفسدين ومدافعة المتسلط الأجنبي، أو إلى تأخير ذلك عن وقت الحاجة، فعند ذلك يطلب مجلس السناتو من أحد رئيسي الدولة الجمهورية أن يختار من أعيان رجال المملكة من يسميه باسم «دكتتوراي مطلق التصرف»، تفوض إليه إدارة المملكة بما يظهر له بمقتضى اجتهاده، كعمل الحرب والصلح ونفي أو قتل من يراه من أهل الفساد والخيانة أو عقابه بأخذ المال أو غير ذلك مما يقتضيه الحال. ولا يتوقف نفوذ حكمه على موافقة أحد إلا في أمر المجابي، فإن أعماله فيها موقوفة على موافقة مجلس السناتو وكل من له مأمورية عسكرية أو سياسية فهو ملزم بتنفيذ أوامره، وكذلك سائر الأهالي. ولا يتجاوز التفويض المذكور ستة أشهر ولو كان السبب باقيا إلا بتفويض جديد، كما أنه إذا ارتفع السبب قبل انتهاء المدة فإن التفويض ينتهي وترجع الإدارة إلى قوانينها. وعند خروج المفوض له تتوجه إليه المسئولية اللازمة لكل من يخرج من خطة معتبرة عندهم، فيطلب منه بيان السبب الداعي إلى ما تصرف به من قتل وحرب وصلح وأخذ مال ونحو ذلك بمحضر أهل رومية المجتمعين لذلك، فإن صوبوا تعليله استوجب شكرهم وثناءهم على سيرته في موكب مخصوص، وإن كانت الأخرى يحكم عليه بما يناسب سوء تصرفه، وأكثر ما يكون ذلك بالنفي من التخت أو أداء المال.
ثم إن الأوروباويين صاروا في المدة الأخيرة يطلقون اسم «الدكتتور» على كل وال مطلق التصرف، سواء كان محدودا بمدة أم لا، كالجنرال كرونول بإنكلترة ونابوليون الأول بفرنسا وغيرهما ممن كان استبداده من آثار حيرة تثور بالمملكة يشتهر فيها المشار إليه بمزيد الدراية والحزم، فينصب نفسه منصب الدكتتور وتتعرف به العامة بقصد إخماد الحيرة وتخليص المملكة من مواقع الخطر واستصلاح حالها بتهذيب جفاة الأهالي وتقويم اعوجاجهم، لكنهم لا يحصلون غالبا على هذا المقصود، بل يتوصل المنتصب بذلك إلى اغتنام الفرصة لاستمرار استبداده، إما لاستمرار أسباب الحيرة وضعفه عن إزالتها، وإما لكون المنتصب أزالها بحسن تدبير وقع من الأهالي موقع الإعجاب حتى اكتسب بذلك مزيد احترام عندهم أسس عليه سلطته وإيثار نفوذ إرادته على إجراء قوانين المملكة، مرجحا بذلك حظ نفسه على المصالح العامة. لكن ذلك مع ما يفضي إليه من المضار الاستبدادية لا ينكر أن المصير إليه واجب عند قيام سببه لاستبقاء راحة المملكة كما يشير إليه قول الحكيم مونتسكيو الفرنساوي: «إنا بمقتضى ما نسمعه من أعمال الأمم التي كانت حاصلة على الحرية التامة نرى أن الحال قد يقتضي إرخاء الستر على الحرية إرخاء وقتيا.» قلت: وحيث كان التفويض المشار إليه إنما ساغ للضرورة، وما أبيح للضرورة يتقدر بقدرها، فلا جرم يجب الرجوع إلى كشف حجب الحرية بعد زوال السبب، هذا وقد قررنا في هذه المقدمة من الأدلة الناهضة الواضحة على ما في التصرفات السياسية المضبوطة بالتنظيمات من المصالح العامة والخاصة التي يشهد العيان بتأثرها الناجحة في الممالك، وما في التصرفات السياسية الغير المضبوطة بها من المضار الفادحة ما تقر به عين النصوح المحب لخير الوطن، وإني لا أزال أقول: إن ترتيب التنظيمات المشار إليها من لوازم وقتنا هذا، كما أقول صدعا بالحق: إن كل متوظف لا يرى الاحتساب عليه في وظيفته فهو عديم الأمانة والنصيحة لدولته ووطنه، ولو كان معتمدا في ذلك على ما قد يجده في نفسه من حب الإنصاف؛ لأنه تسبب فيما يستعقب الخراب بامتناعه من المراقبة والاحتساب، حيث إن أكثر المتوظفين إنما يباشر خطته على مقتضى شهواته ومصالحه الخصوصية مؤثرا لها على المصالح الوطنية العمومية، فهب أنه كان مجبولا على حب الإنصاف فإن غيره لا يفعل مثله إلا بمراقبة الاحتساب؛ ولأنه لو كان منصفا في الواقع ما ضره الاحتساب حتى يمتنع منه، بل اللائق بحاله مزيد الحث عليه؛ إذ به تظهر براءته ظهورا لا يحصل بدون ذلك. وفيما أودعناه في غضون هاته المقدمة للمستبصرين كفاية، والتوفيق بيد الله المحمود في كل بداءة ونهاية.
الجزء الأول
في الكلام على ممالك أوروبا
الباب الأول
Unknown page