184

وانصرفت مع الشرطي نحو العربة المنتظرة، وقاومت الدافع القوي الذي كان يدفعني للنظر إلى الوراء، ولما أغلق الشرطي الباب من ورائنا قذفت برأسي على كفي معتمدا بذراعي على ركبتي، وتمنيت لو أسعفني البكاء حتى أخفف من شدة الضغط الذي كاد يمزق كياني.

وقضيت الليلة الأولى بعد عودتي إلى السجن في أشد من الجحيم، فلم أذق طعم النوم فضلا عما كنت أعانيه من الآلام والهواجس، كما أني لم أذق طعاما في الغداء أو العشاء، بل وزعت ما جاءني على بعض المساجين الآخرين، ورجوت المأمور أن يرفض قبول أي طعام من الخارج من أجلي.

ولم تنقطع آلامي وهواجسي في اليوم التالي، وزادني غيظا أن الطعام استمر يأتي إلي برغم إلحاحي في رفضه، فكنت أوزعه على زملائي من الأرقام الأخرى، وأعدت الكرة مرة ثالثة على المأمور قائلا له: «إنني أحتج احتجاجا شديدا لإرغامي على قبول طعام لا أريد قبوله.»

والظاهر أن حمادة كان يحتال على إيصال الطعام إلي بإهداء بعض الهدايا إلى حراس السجن، فإن المأمور اضطر إلى إحضار رئيس الحراس أمامي وهدده بالعقاب إذا هو تساهل في إدخال أي طعام يأتي باسمي، وبعد ثلاثة أيام من هذا الاحتراق المستمر شعرت في الليل بقشعريرة شديدة والتهاب في الزور، وقمت في صباح اليوم الرابع لا أكاد أقدر على بلع ريقي، وترددت في أن أعرض أمري على المأمور فتحملت آلامي ولم أذق شيئا من طعام السجن الذي جاء إلي، ولو كنت في تمام صحتي لما وجدت له شهوة؛ إذ كان لونه ومنظره يكفيان لصد النفس عنه، ولما أقبل الليل خيمت على قلبي كآبة شديدة زادتني ألما على ألم وزادت حرارة جسمي حتى كنت أحسها في أنفاسي المكروبة ورأسي المصدع وأعضائي النابضة بالوجع، وخشيت أن يكون قد أصابني مرض خطير يقضي علي قبل الصباح، فتحاملت على نفسي حتى وصلت إلى الباب، فدققته لأدعو السجان، وبعد حين فتح الباب وسألني الرجل في لهجة اللائم عما أريد، فلما علم أن الأمر لا يزيد على أني مريض أجابني قائلا: وماذا أصنع لك؟

ثم أغلق الباب وانصرف عني بغير أن يزيد كلمة، ولم أجد فائدة في إعادة الكرة عليه فتهالكت على سريري، وألهاني الوجع عن التفكير في فظاظة ذلك السجان، وأغلقت عيني لأغريها بالنوم، ولكن سلسلة من أخيلة محمومة لا معنى لها أغرقت وعيي، وجعلت تتطارد وتتواثب في شبه حلم مضطرب، وعادت إلي القشعريرة أشد مما كانت في الليلة الماضية فقمت أبحث عن شيء أتغطى به فلم أجد شيئا، وجعلت أنتفض وأرتعد ساعة طويلة حتى زال البرد وهجمت علي حرارة شديدة كادت تزهق روحي.

وطلع الصباح آخر الأمر وطلبت من السجان أن يبلغ المأمور أني مريض، فما هي إلا ساعة قصيرة حتى جاء الطبيب ليفحصني، ولو كنت قطة مدللة لكانت عناية الطبيب بي أكثر من عناية ذلك الرجل الذي جاء إلي فنظر إلى وجهي ثم قال: ماذا تشكو؟

فأشرت إلى زوري قائلا: زوري أولا، وقد بدأت أسعل في آخر الليل سعالا شديدا، وجسمي هامد، ورأسي مصدع، ولم أذق النوم، وانتابتني في الليل قشعريرة شديدة.

وأظن حرارتي ...

ولكنه لم يصبر حتى أتم قولي.

فقاطعني ساخرا: يظهر أنك تعرف كل شيء، فلم يبق إلا أن تشخص المرض.

Unknown page