183

وذهبت في اليوم الرابع لأحضر جلسة المعارضة، وتطلعت إلى الساعة التي أقف فيها أمام القاضي، ولم أجد في المحكمة من ينتظرني غير فراش مكتبي الذي اندفع نحوي مسلما ضاغطا على يدي وقال: تشجع يا أستاذ!

وقدم إلي سيجارة.

ولم يطل بي الانتظار؛ فإن القاضي أخذ يستمع إلى أقوالي في هدوء واعتدال، حتى تيقنت أن الحكم سيكون بالإفراج.

وكانت دهشتي عظيمة عندما أعلن القاضي أن الحكم بعد أسبوع.

ولما خرجت من الغرفة لم أكد أصدق عيني عندما رأيت أمامي وجه أمي الباكية، ولمحت إلى يمينها ويسارها عبد الحميد عباد ومنيرة وحمادة الأصفر، وسبح رأسي في الفضاء حتى كدت أسقط، لولا أن تماسكت وسلمت نفسي للأم المسكينة التي لم أفهم مما قالت شيئا، وجاءت منيرة وعبد الحميد يحاولان أن يهدئاها، ووجدت أن الموقف أشد من طاقتي، فحاولت أن أقول بعض كلمات أخفف بها لوعتها، ولكني لم أجد شيئا أقوله.

وكان الشرطي المكلف بحراستي أكثر إنسانية من أن يجذبني من ذراعي، فاكتفى بأن قال: «لا داعي لكل هذا، والعاقبة خير إن شاء الله.» فعاد إلي شيء من قوة الإرادة، ونزعت نفسي من يدي أمي في شيء من العنف وتكلفت قلة الاهتمام، وشددت ابتسامة على وجهي قائلا: لماذا تزعجون أنفسكم بالحضور إلى هنا؟ هذه شروط المهنة يا عبد الحميد، وأنت يا منيرة ألا تريدين أن تكوني صحفية؟ هناك صحفيات كثيرات أقل منك براعة في تمثيل أدوار البكاء، تعالي يا آنستي معي لتري أني أفطر عسل نحل وأتغدى كبابا.

وأنت يا حمادة!

فتقدم حمادة إلي ومد يده مسلما، وكان وجهه يدل على التأثر، فقلت له: أظنك أنت المسئول عن هذا؟ من أخبر هؤلاء غيرك؟

فقال: يعني يا أستاذ سيد أذهب لأسأل عنك وأعلم أنك في السجن ولا أبعث إليهم؟ يعني كنا كلنا نأكل ونشرب وننام في بيوتنا وأنت تأكل مع المساجين؟ كان لا بد أن أقول لهم ولا بد أن نهتم بك يا أستاذ، والمسألة بسيطة؛ تلغراف: «منتظركم اليوم بالمحطة لأمر هام يخص الأستاذ سيد.» والست الكبيرة دعت لي وهي مرتاحة مع منيرة هانم في بيت الحاج مصطفى، وأنا وفطومة وكلنا في الخدمة، ووالله ما يحمل لك الأكل غيري، يا سلام يا أستاذ! بعض خيرك والله! وكل يوم أطلب مقابلتك والمأمور يرفض، إن شاء الله ربنا يفرجها.

ووضع الشرطي يده على كتفي منبها، فنزعت نفسي لأسير معه وأخذت يد حمادة فضغطت عليها، وأبت أمي إلا أن تضمني إلى صدرها قبل أن أذهب، وكانت عينا منيرة غارقتين في الدمع وهي تسلم علي صامتة، وأما عبد الحميد فهمس إلي قائلا: أنا مقيم هنا فلا تفكر في شيء، وعندي كلام كثير أقوله لك قريبا.

Unknown page